الحمد لله.
حكم إطلاق لفظ "الشخص" على الله
يجوز إطلاق "الشخص" على الله، والإخبار عنه – سبحانه -: بأنه "شخص"؛ لورود ذلك في السنة الصحيحة، كما روى مسلم (1499) من حديث سَعْد بْن عُبَادَةَ قال: "لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، فَوَاللهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللهُ أَغْيَرُ مِنِّي، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ، مَا ظَهَرَ مِنْهَا، وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ، مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ ".
ورواه البخاري (7416) بلفظ: (لا أحد، لكنه قال: "وقال عبيد الله بن عمرو بن عبد الملك [أحد رواة الحديث]: (لا شخص أغير من الله).
وبوب عليه البخاري: "باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا شخص أغير من الله).
قال الشيخ عبد الله الغنيمان حفظه الله في "شرحه لكتاب التوحيد من صحيح البخاري" (1/335): "قال [أي: البخاري]: باب: قول النبي صلى الله عليه وسلم: لا شخص أغير من الله الغيرة بفتح الغين... والشخص: هو ما شخص وبان عن غيره.
ومقصد البخاري: أنَّ هذين الاسمين يطلقان على الله تعالى وصفاً له؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أثبتهما لله، وهو أعلم الخلق بالله تعالى".
وقال في (1/338): "وبهذا يتبين خطأ ابن بطال في قوله: "أجمعت الأمة على أنَّ الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به." أ.هـ. ذكره الحافظ.
وهذه مجازفة، ودعوى عارية من الدليل؛ فأين هذا الإجماع المزعوم؟! ومن قاله سوى المتأثرين ببدع أهل الكلام؛ كالخطابي، وابن فورك، وابن بطال؛ عفا الله عنا وعنهم؟!
وقوله: "لأن التوقيف لم يرد به": يبطله ما تقدم من ذكر ثبوت هذا اللفظ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرق صحيحة لا مطعن فيها، وإذا صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وجب العمل به والقول بموجبه، سواء كان في مسائل الاعتقاد أو في العمليات، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم إطلاق هذا الاسم - أعني: الشخص - على الله تعالى، فيجب اتباعه في ذلك على من يؤمن بأنه رسول الله، وهو صلى الله عليه وسلم أعلم بربه، وبما يجب له وما يمتنع عليه تعالى من غيره من سائر البشر.
وتقدم أنَّ الشخص في اللغة: ما شخص وارتفع وظهر؛ قال في اللسان: "الشخص كل جسم له ارتفاع وظهور".
والله تعالى أظهر من كل شيء، وأعظم وأكبر، وليس في إطلاق الشخص عليه محذورٌ على أصل أهل السنة الذين يتقيدون بما قاله الله ورسوله." انتهى.
سبب منع بعض شراح الحديث إطلاق الشخص على الله
وقال الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله: " وقد استدلَّ جمعٌ مِن أهلِ السُّنَّة بهذا الحديث على جواز إطلاق "الشَّخص" على الله، ولفظ الحديث يدلُّ على ذلك؛ كما يدلُّ حديثُ أسماء في الصَّحيحين: (لا شيءَ أغيرُ مِن الله) على أنَّ الله شيءٌ.
ومعنى "الشَّخص" في اللغة هو القائم بنفسه الظَّاهر، وليس هذا مما يُمتنع على الله، بل مما يَصْدقُ على الله؛ لأنَّه ثابتٌ في حقِّهِ.
والذين منعوا إطلاقه على الله مِن شُرِّاح الحديث: إنَّما أُتوا مِن تفسيرهم "الشَّخصَ" بما يُمتنع إطلاقُه على الله عندهم، أو يُمتنع مطلقًا، وإليك قول الرازيِّ في لفظ "الشَّخص" في الحديثِ، قالَ في تأسيس التَّقديس: "في هذا الخبر لفظان يجبُ تأويلهما؛ الأول: الشَّخص، والمراد منه الذَّاتُ المعيَّنة والحقيقةُ المخصوصة؛ لأنَّ الجسم الذي له شخصٌ وحجميَّةٌ يلزم أن يكون واحدًا؛ فإطلاقُ اسمِ الشَّخصيَّة على الوحدة، إطلاقُ اسمِ أحد المتلازمَين على الآخر".
أقول: تضمَّن هذا الكلامُ أمورًا:
الأول: أنَّ الرَّازيَّ يذهبُ إلى نفي إطلاق "الشَّخص" على الله؛ لذلك يجبُ تأويله عنده.
الثاني: أنَّه فسَّر "الشَّخص" بما هو ممتنع -عنده- إطلاقه على الله. قال: "الشَّخص: الذَّات المعيَّنة، والحقيقة المخصوصة"، وزعم أنَّ هذا شأنُ الجسم الذي له شخص وحجميَّة، ومِن المستقر عند الرَّازي في مذهبه ومذهب طائفته: أنَّ الله ليس بجسم، فظهر مِن ذلك أنَّ نفيه إطلاقَ "الشخص" على الله بالمعنى الذي ذكره، مبنيٌّ على استلزامه للجسم، وما يستلزم الممتنِعَ فهو ممتنعٌ بداهة!
فيقال: إنَّ لفظ الجسم هو مِن الألفاظ المجملة التي تحتمل حقًّا وباطلًا، ولم يرد في الشَّرع ذكره في حقِّ الله إثباتًا ولا نفيًا، وتفسير الرَّازي الشَّخصَ بأنَّه "الذات المعيَّنة والحقيقة المخصوصة" ليس مما يمتنع على الله، بل مما يجبُ إثباته؛ لأنَّ خلافه يقتضي أن يكونَ وجودُ الله وجودًا مطلقًا غير معيَّن، والوجودُ المطلقُ لا يوجد مطلقًا إلا في الذّهن؛ فكلُّ موجودٍ في الخارج فهو معيَّن، فعُلم أنَّ نفي "الشَّخص" عن الله بالمعنى الذي ذكره الرازيُّ، يستلزم أنَّ الله ليس له حقيقة في الخارج.
ويُعلم ممَّا تقدَّم أيضًا: أنَّ الاسم المنفي بـ (لا) في الحديث، جاء بثلاثة ألفاظ: أحد، وشيء، وشخص؛ ودلالتها على الله واحدة، فهو تعالى "أحدٌ"، و"شيءٌ"، و"شخصٌ"، فمن فرَّق بينها في الدَّلالة، والصّيغةُ واحدةٌ: فهو مفرِّقٌ بين المتماثلات، وقد نصّ بعضُ أئمة النَّحو كابن مالك في "التَّسهيل" على أنَّ (أحدًا) يختصُّ بالعاقل، ومَن تدبَّر ذلك وجده صحيحًا، وقد وردَ (أحدٌ) في القرآن في مواضع كثيرة، وكلها مختصَّة بالعاقل، كذلك يظهرُ للمتأمّل أنَّ لفظ "الشَّخص" نظير "أحد" في اختصاصٍه بالعاقل.
وقد أفاض شيخُ الإسلام ابن تيميَّة في نقض ما قاله الرَّازي، وذكر الأحاديثَ الدَّالةَ على إثبات "الشَّخص" لله تعالى، مما يُعلم منه ضرورة أنَّه -رحمه الله- ممن يُثبت إطلاقَ لفظ "الشَّخص" على الله، فليُرجع إلى كلامه في كتابه "بيان تلبيس الجهمية" [ج7 ص 391]، وأثبتَ هذا الإطلاقَ أيضًا: تلميذُه ابنُ القيم في "زاد المعاد" [ج3 ص 595].
وأمَّا مَن ذهبَ مِن شُرِّاح الحديث إلى منعِ إطلاقِ "الشَّخص" على الله، مُحتجّين بأنَّ لفظ الحديث لا يدلّ على المطلوب مِن جهة اللغة، فما زعموه مِن عدم الدَّلالة إنَّما يتعلَّق بأفعل التَّفضيل المضاف، كما ذكروا، ولفظ الحديث متضمّنٌ لنفي الجنس بـ (لا)، وأفعل التَّفضيل فيه غير مضافٍ، بل المفضَّل عليه مجرور بـ"مِن" لا مضاف إليه، ونظيرُ لفظ الحديث أن تقول: لا رجلَ أكرمُ مِن زيد، ومعلومٌ أنَّ هذا يدلُّ على أنَّ زيدًا رجلٌ قطعًا.
أمَّا لو كانَ لفظ الحديث: "الله أغيرُ شخصٍ" فإنَّه يمكن -احتمالًا- ألا يدلَّ اللفظ على إطلاق الشَّخص على الله.
قال القاضي أبو يعلى في "إبطال التَّأويلات" [1/166]: "وأمَّا لفظُ الشَّخصِ فرأيتُ بعضَ أصحابِ الحديث يذهبُ إلى جوازِ إطلاقه، ووجهُه أنَّ قوله: (لا شخصَ) نفيٌ مِن إثبات، وذلك يقتضي الجنس، كقولك: لا رجلَ أكرمُ مِن زيد، يقتضي أنَّ زيدًا يقع عليه اسم رجل، كذلك قوله: (لا شخصَ أغيرُ مِن الله) يقتضي أنَّه سبحانه يقع عليه هذا الاسم".
قال عبد الله بن الإمام أحمد بعد ذكره لحديث (لا شخصَ أغيرُ مِن الله): "قال عبيد الله القواريري-أحد رجال هذا الحديث عند الإمام أحمد-: "ليس حديثٌ أشدَّ على الجهميَّة مِن هذا الحديث". مسند الإمام أحمد 30/105 ط. مؤسسة الرسالة.
وبمناسبة قول القواريري -رحمه الله- ننبّه على أنَّ كلَّ الذين منعوا مِن إطلاق "الشَّخص" على الله مِن شُرِّاح الحديث: هم مِن أهل الكلام النُّفاة؛ فالحامل لهم على نفي ما دلَّ عليه الحديث هو أصلُ مذهبِهم في صفات الله، فلا يُغتر بهم، عفا الله عنهم. ومِن أحسنهم كلامًا في هذا ابنُ الأثير حيث قال في كتابه "النهاية" [2/451] عند الحديث: "المراد بالشَّخص في حقّ الله تعالى: إثبات الذَّات" اهـ. والله أعلم، وصلَّى الله وسلم على محمَّد" انتهى من موقع الشيخ.
فالحاصل: أن إطلاق الشخص على الله إطلاق صحيح لفظا ومعنى.
والله أعلم.
تعليق