الحمد لله.
ثبت في السنة الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بعض المعذبين ليلة المعراج، بل جاء فيها أنه نظر في النار، ورأى بعضهم فيها.
روى أحمد (13340)، وأبو داود (4878) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمَّا عَرَجَ بِي رَبِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ، يَخْمِشُونَ وُجُوهَهُمْ وَصُدُورَهُمْ. فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ وصححه الألباني، وشعيب الأرنؤوط.
وروى أحمد (12211)، وابن حبان (53) عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَرَرْتُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي عَلَى قَوْمٍ تُقْرَضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ. قَالَ: قُلْتُ مَنْ هَؤُلَاءِ؟ قَالُوا: خُطَبَاءُ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا مِمَّنْ كَانُوا يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ، وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ، وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ، أَفَلَا يَعْقِلُونَ .
وصححه الألباني في "السلسلة الصحيحة" برقم (291)، وشعيب في تحقيق المسند.
وليس في ذلك ذكر أنه رآهم في النار، فيحتمل أنه رأى عذابهم في البرزخ كما سيأتي.
لكن روى أحمد (2324) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما في قصة الإسراء : ... قَالَ: فَمَضَى فَلَقِيَهُ شَيْخٌ جَلِيلٌ مَهِيبٌ فَرَحَّبَ بِهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَكُلُّهُمْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، قَالَ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَبُوكَ إِبْرَاهِيمُ، قَالَ: فَنَظَرَ فِي النَّارِ فَإِذَا قَوْمٌ يَأْكُلُونَ الْجِيَفَ، قَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ، وَرَأَى رَجُلًا أَحْمَرَ أَزْرَقَ جَعْدًا شَعِثًا إِذَا رَأَيْتَهُ قَالَ: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ " قَالَ: هَذَا عَاقِرُ النَّاقَةِ .
والحديث صححه ابن كثير في التفسير، وأحمد شاكر في تحقيق المسند، وضعفه شعيب الأرنؤوط. وقال الألباني في "الإسراء والمعراج" ص74: " قال فيه ابن كثير: "صحيح" وتبعه السيوطي في "الخصائص" 1/397، وهو تساهل واضح، فإن قابوس - وهو ابن أبي ظبيان - فيه لين كما قال في التقريب" انتهى.
وهذه الرؤية تحتمل أمرين:
الأول: أن الله عرض له صور المعذبين، على ما سيكون في النار بعد القيامة.
وهذا مثل ما صور الله له النار والجنة وهو في صلاة الكسوف، ورأى في النار بعض المعذبين، ومعلوم أنهم لم يدخلوا نار الآخرة الآن، وإنما هو تصوير لما سيقع لهم، ففي حديث جابر: قَالَ: " انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ مَاتَ إِبْرَاهِيمُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّاسُ: إِنَّمَا انْكَسَفَتْ لِمَوْتِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَامَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى بِالنَّاسِ . وفيه قال النبي صلى الله عليه وسلم: مَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ، لَقَدْ جِيءَ بِالنَّارِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، مَخَافَةَ أَنْ يُصِيبَنِي مِنْ لَفْحِهَا، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَ الْمِحْجَنِ يَجُرُّ قُصْبَهُ فِي النَّارِ، كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، فَإِنْ فُطِنَ لَهُ قَالَ: إِنَّمَا تَعَلَّقَ بِمِحْجَنِي، وَإِنْ غُفِلَ عَنْهُ ذَهَبَ بِهِ، وَحَتَّى رَأَيْتُ فِيهَا صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ الَّتِي رَبَطَتْهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا، وَلَمْ تَدَعْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ، حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا، ثُمَّ جِيءَ بِالْجَنَّةِ، وَذَلِكُمْ حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَقَدَّمْتُ حَتَّى قُمْتُ فِي مَقَامِي، وَلَقَدْ مَدَدْتُ يَدِي وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ أَتَنَاوَلَ مِنْ ثَمَرِهَا لِتَنْظُرُوا إِلَيْهِ، ثُمَّ بَدَا لِي أَنْ لَا أَفْعَلَ، فَمَا مِنْ شَيْءٍ تُوعَدُونَهُ إِلَّا قَدْ رَأَيْتُهُ فِي صَلَاتِي هَذِهِ رواه مسلم (904) ورواه البخاري في مواضع مختصرا.
2-أن هذا عذابهم في البرزخ (في قبورهم) أطلع الله نبيه عليه. والقبر أول منازل الآخرة، ويحصل فيه عرض الكفار على النار. قال الله تعالى: وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ غافر/45-46.
قال الحافظ ابن كثير، رحمه الله: " وحاق بآل فرعون سوء العذاب وهو: الغرق في اليم، ثم النقلة منه إلى الجحيم. فإن أرواحهم تعرض على النار صباحا ومساء إلى قيام الساعة، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار؛ ولهذا قال: ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب أي: أشده ألما وأعظمه نكالا. وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة على عذاب البرزخ في القبور، وهي قوله: النار يعرضون عليها غدوا وعشيا". انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/146).
وقال الحافظ ابن حجر في شرح حديث سمرة بن جندب الطويل في رؤيا نبينا صلى الله عليه وسلم: " وفي هذا الحديث من الفوائد: أن الإسراء وقع مرارا يقظة ومناما على أنحاء شتى وفيه أن بعض العصاة يعذبون في البرزخ" انتهى من "فتح الباري" (12/ 445).
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله: " في حديث الإسراء والمعراج الذي رُوي عنه ﷺ ورد أنه ﷺ رأى أناسًا يُعذَّبون.
والسؤال: هل هناك عذاب قبل يوم القيامة غير عذاب القبر؟
فاجاب: " هذا يُفسَّر بأنَّ هؤلاء صُوّروا له يُعذَّبون بسبب أعمالهم الخبيثة المنكرة، ويحتمل أن هذا العذاب لهم في الدنيا، ويحتمل أنه مثال لعذابهم الذي يكون يوم القيامة، فإنه ﷺ رأى في نومه ملكين أخذا بيده وأرياه جماعةً من المعذَّبين: من آكل الربا، ومن الزُّناة والزَّواني، ومن الذي ينام عن الصلاة حتى تطلع الشمس ولا يُصلي، ويحفظ القرآنَ ولا يعمل به، فهو يحتمل أمرين:
أحدهما: أن هذا العذاب يحصل لهم في القبر في أرواحهم في البرزخ، وأنه عذابٌ عُجِّل لهم.
ويحتمل أن المراد بذلك: أنَّ هذا هو جنس العذاب الذي يحصل لهم يوم القيامة، وأن هذا مما يُعذَّبون به يوم القيامة في النار -نسأل الله العافية والسلامة.
وبكل حالٍ؛ فهو وعيدٌ عظيمٌ يُفيد الحذر من هذه الأعمال الخبيثة، سواء كان ذلك في البرزخ، أو في الآخرة، والأظهر والأقرب -والله أعلم- أنه في البرزخ -نسأل الله العافية" انتهى من موقع الشيخ ابن باز
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " كيف رأى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أحوال أهل الجنة، وأحوال أهل النار ليلة الإسراء والمعراج، مع أن الساعة لم تقم بعد؟ .
فأجاب بقوله: إن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أخبرنا بذلك وأنه رأى الجنة والنار، ورأى أقواما يعذبون وأقواما ينعمون، والله أعلم بكيفية ذلك؛ لأن أمور الغيب لا يدركها الحس، فمثل هذه الأمور إذا جاءت يجب علينا أن نؤمن بها كما جاءت، وأن لا نتعرض لطلب الكيفية" انتهى من "مجموع فتاوى ابن عثيمين" (2/ 53).
فالحاصل:
أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى المعذبين وهم يعذبون في البرزخ، أو صور له كيفية عذاب هؤلاء إذا دخلوا في النار بعد الحساب.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(89813).
والله أعلم.
تعليق