الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

هل الجسم والجسد والبدن والجارحة لا تثبت ولا تنفى في حق الله تعالى؟

364434

تاريخ النشر : 04-06-2022

المشاهدات : 12377

السؤال

بعض المخالفين يستشكلون علينا قولنا أن لفظ الجسم والبدن والجسد وغيرها ألفاظا مجملة فلا نقبلها، ولا نردها، وقد يراد بها حقا أو باطلا، فيقولون: إن من علماء السلف من رد هذه الألفاظ كاملة، وكانوا ينكرون على قائلها، ويقولون: إن أول من قال بأنها ألفاظ مجملة فلا نردها ولا نقبلها هو شيخ الإسلام ابن تيمية بحيث لم يسبقه أحد إلى هذا القول، فما صحة كلامهم؟

الحمد لله.

أولا:

استخدام الألفاظ المجملة في حق الله تعالى

الألفاظ المجملة هي التي تحتمل أكثر من معنى بطبيعة الوضع، أو بالاستعمال، مع عدم ورود النص بها، لا إثباتا ولا نفيا ؛ كلفظ الجهة والحيز في حق الله تعالى.

وهذه يُتوقف في لفظها لعدم وروده، ومعلوم أن الصفات التوقيفية.

وأما المعنى، فإن كان يراد منها حق وباطل، فلا بد من التفصيل؛ لأنه لا يصح نفيها بإطلاق لما يؤدي إليه من نفي المعنى الحق، ولا يمكن إثباتها بإطلاق لما يؤدي إليه من إثبات المعنى الباطل.

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

"فما ورد إثباته لله تعالى من ذلك في الكتاب والسنة، وجب إثباته.

وما ورد نفيه فيهما، وجب نفيه مع إثبات كمال ضده.

وما لم يرد إثباته ولا نفيه فيهما وجب التوقف في لفظه، فلا يثبت ولا ينفى، لعدم ورود الإثبات والنفي فيه.

وأما معناه: فيفصل فيه؛ فإن أريد به حقٌ يليق بالله تعالى فهو مقبول، وإن أريد به معنىً لا يليق بالله عز وجل وجب ردّه".

ثم قال: "ومما لم يرد إثباته ولا نفيه لفظ: (الجهة) ، فلو سأل سائل: هل نثبت لله تعالى جهة؟ قلنا له: لفظ الجهة لم يرد في الكتاب والسنة إثباتا ولا نفيا، ويُغني عنه ما ثبت فيهما من أن الله تعالى في السماء.

وأما معناه: فإما أن يراد به جهة سفل، أو جهة علو تحيط بالله، أو جهة علو لا تحيط به.

فالأول باطل، لمنافاته لعلو الله تعالى الثابت بالكتاب والسنة والعقل والفطرة والإجماع.

والثاني باطل أيضا، لأن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.

والثالث حق، لأن الله تعالى العلي فوق خلقه ولا يحيط به شيء من مخلوقاته" انتهى من "القواعد المثلى" ص29

وكذلك "الحيِّز"، و"التحيُّز" و"المتحيِّز"؛ فقد يراد بإطلاق أمثال هذه العبارات: أن الله جل جلاله : بائن عن خلقه، غير مخالط لهم، ولا ممتزج بهم؛ وهذا حق لا ريب فيه. وقد يراد بـ"المتحيز": ما يحوزه ويحيط به غيره، وهذا باطل في حق الله تعالى، لا ريب في بطلانه أيضا.

وطريقة أهل البدع استعمال الألفاظ المجملة نفيا وإثباتا، كالجهة والحيز والتغير والتركيب وحلول الحوادث.

ولهذا قال أحمد رحمه الله: "يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما يشبهون عليهم" انتهى من الرد على الزنادقة والجهمية، ص6

وقال ابن القيم رحمه الله:

فعليك بالتفصيل والتمييز فالإ ... طلاق والإجمال دون بيان

قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ ... ـأذهان والآراء كل زمان

ثانيا:

ما يدل على النقص يُنفى عن الله تعالى 

ما دل على النقص فإنه ينفى عن الله تعالى ولو لم يأت في النص نفيه؛ لأن الله تعالى له الكمال المطلق، والأسماء الحسنى، والصفات العلى، وهذا ينفي عنه النقص بأي وجه من الوجوه.

قال شيخ الإسلام: " الله سبحانه وتعالى منزه عن صفات النقص مطلقاً، كالسِّنة والنوم والعجز والجهل وغير ذلك" انتهى من "منهاج السنة" (2/522).

وقال أيضا: " فهو سبحانه مُتَّصفٌ بصفات الكمال، مُنَزَّهٌ عن النقص بكل وجه، ومُنَزَّه عن أن يماثله غيره في شيء من صفاته.

والتنزيه ينبني على هذين الأصلين:

الأول، وهو تنزيهه تعالى عن النقص والعيب بكل وجه، وذلك داخل في معنى اسمه القدوس السلام؛ فإنه مستحق لصفات الكمال وهي من لوازم ذاته؛ فكل ما نافى كماله اللازم له وجب نفيه عنه، لامتناع اجتماع الضدين؛ وبهذا تبيَّن أن تنزيهه عن النقائص يُعْلَم بالعقل. فإن طائفةً من النُّظار كصاحب الإرشاد وشيعته قالوا: إنما يُعْلَم نفي النقائص بالسمع، وهو مبسوط في موضعه، فإن الرب تعالى مستحق لصفات الكمال، وهي لازمة له يمتنع وجوده بدونها، كالحياة والقيومية والعلم والقدرة، والحياةُ والقيومية تنافي السِّنَة والنوم، والعلمُ ينافي النسيان والجهل، والقدرةُ تنافي العجز واللغوب، وأمثال ذلك.

والأصل الثاني: أنه ليس له كفوًا أحد في شيء من صفاته، فلا يماثله شيء من الأشياء في شيء من صفاته، فمن نفى صفاته كان معطلاً، ومن مثَّلها بصفات خلقه كان ممثلاً.

ولهذا كان مذهب السلف والأئمة: إثبات الصفات على وجه التفصيل، ونفي النقص والتمثيل؛ إثباتٌ بلا تمثيل، وتنزيهٌ بلا تعطيل، فقوله تعالى : ( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) [الشورى 11] : ردٌّ على الممثِّلة، وقوله : ( وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ) : ردٌّ على المعطِّلة. " انتهى، من "الرد على الشاذلي" (214).

وينظر لزيادة الفائدة: "درء تعارض العقل والنقل" (2/336)، "مجموع الفتاوى" (6/85).

ثالثا:

حكم إطلاق لفظ "الجسد" والبدن والجسم في حق الله

أما "الجسد" و"البدن" فلا نعلم أحد من أهل السنة توقف في نفي ذلك، فإن الجسد لحم ودم، وإثبات ذلك تشبيه ظاهر. وسيأتي تصريح شيخ الإسلام أن الله منزه عن ذلك.

وأما لفظ الجسم، فقد استعمل في أربعة معان، كلها منفية عن الله تعالى إلا معنى واحدا.

جاء في كتاب "مقالة التفويض" ص579 : " أما لفظ الجسم: فإن ابن تيمية رحمه الله لم يطلقه على الله في موضع من المواضع، بل يرى أنه لفظ مبتدع، وهو مع ذلك مجمل، استعمله الناس في معان صحيحة ومعان فاسدة، فلو فرض أنه أريد به معنى صحيح كالقائم بنفسه، فإن ابن تيمية لا يجيز إطلاقه على الله، لعدم وروده.

وحاصل المعاني التي زعمت الفرق أن الجسم وضع بإزائها ثلاثة:

الأول: المركب من الهيولي (المادة) والصورة، وإليه ذهب الفلاسفة.

والثاني: المؤلف أو المركب من جوهرين فصاعداً، وإليه ذهب الأشاعرة.

والثالث: أنه الموجود أو القائم بنفسه أو المشار إليه، وإليه ذهب الكرامية.

ونضيف إليها رابعاً، وهو معناه في اللغة، فالجسم هو الجسد والبدن.

قال الخليل بن أحمد الفراهيدي: (الجِسْمُ: يجمَعُ البَدَنَ وأعضاءه، من الناسِ والإبلِ والدَّوابِّ ونحوِه مِمّا عَظُم من الخَلْقِ الجسيم، والفِعْلُ : جَسُمَ جَسامةً،  والجُسامُ يجري مَجرَى الجَسيمِ، والجُسْمان : جِسْمُ الرجلِ ويقال : إنَّه لنَحيفُ الجُسْمانِ).

وقال الجوهري: (قال أبو زيد: الجِسْمُ والجُسْمانُ: الجَسَدُ، والجُثْمانُ: الشخصُ. قال: وجماعة جِسمِ الإنسان أيضاً يقال له الجُسْمانُ. وقد جَسُمَ الشيءُ، أي عَظُمَ، فهو جَسيمٌ وجُسامٌ بالضم. والجِسام بالكسر: جمع جَسيم).

هذه معاني الجسم في اللغة والاصطلاح، وابن تيمية رحمه الله ينفي هذه المعاني جميعاً عن الله تعالى، إلا المعنى الثالث، وهو ما إذا أريد بالجسم: الموجود والقائم بنفسه والمشار إليه، فيثبت المعنى، ويأبى اللفظ (أي الجسم) ويرى إطلاقه على الله بدعة، كما أن نفيه بدعة.

وفي نفي المعنى الأول والثاني والرابع، وإثبات الثالث، يقول شيخ الإسلام رحمه الله:

"فالجسم في اللغة هو البدن، والله منزه عن ذلك، وأهل الكلام قد يريدون بالجسم ما هو مركب من الجواهر المفردة، أو من المادة والصورة، وكثير منهم ينازع في كون الأجسام المخلوقة مركبة من هذا وهذا؛ بل أكثر العقلاء من بني آدم عندهم أن السموات ليست مركبة لا من الجواهر المفردة ولا من المادة والصورة؛ فكيف يكون رب العالمين مركبا من هذا وهذا؟!

فمن قال: إن الله جسم، وأراد بالجسم هذا المركب: فهو مخطئ في ذلك.

ومن قصد نفي هذا التركيب عن الله; فقد أصاب في نفيه عن الله، لكن ينبغي أن يذكر عبارة تبين مقصوده.

ولفظ التركيب قد يراد به أنه ركبه مركب، أو أنه كانت أجزاؤه متفرقة فاجتمع، أو أنه يقبل التفريق، والله منزه عن ذلك كله.

وقد يراد بلفظ الجسم والمتحيز: ما يشار إليه، بمعنى أن الأيدي ترفع إليه في الدعاء، وأنه يقال: هو هنا وهناك، ويراد به القائم بنفسه، ويراد به الموجود. ولا ريب أن الله موجود قائم بنفسه، وهو عند السلف وأهل السنة ترفع الأيدي إليه في الدعاء، وهو فوق العرش، فإذا سمى المسمِّي ما يتصف بهذه المعاني جسماً؛ كان كتسمية الآخر ما يتصف بأنه حي عالم قادر جسماً، وتسمية الآخر ما له حياة وعلم وقدرة جسماً.

ومعلوم أن هؤلاء كلهم ينازَعون في ثلاث مقامات:

أحدها: أن تسمية ما يتصف بهذه الصفات بالجسم: بدعة في الشرع واللغة; فلا أهل اللغة يسمون هذا جسماً، بل الجسم عندهم هو البدن، كما نقله غير واحد من أئمة اللغة، وهو مشهور في كتب اللغة. قال الجوهري في صحاحه  المشهور..." [شرح حديث النزول، ص70]...

وفي نفي المعنى الأول والثاني، والتصريح بنفي التركيب والتجسيم، قال رحمه الله:

"فإذا عُرف تنازع النظّار في حقيقة الجسم، فلا ريب أن الله سبحانه ليس مركباً من الأجزاء المنفردة، ولا من المادة والصورة، ولا يقبل سبحانه التفريق والانفصال، ولا كان متفرقاً فاجتمع، بل هو سبحانه أحد صمد، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد.

فهذه المعاني المعقولة من التركيب كلها منتفية عن الله تعالى، لكن المتفلسفة ومن وافقهم تزيد على ذلك وتقول: إذا كان موصوفا بالصفات كان مركباً، وإذا كانت له حقيقة ليست هي مجرد الوجود كان مركباً.

فيقول لهم المسلمون المثبتون للصفات: النزاع ليس في لفظ المركب، فإن هذا اللفظ إنما يدل على مركَّب ركّبه غيره، ومعلوم أن عاقلاً لا يقول: إن الله تعالى مركَّب بهذا الاعتبار. وقد يقال لفظ المركب على ما كانت أجزاؤه متفرقة فجُمع، إما جمعَ امتزاج، وإما غير امتزاج، كتركيب الأطعمة والأشربة والأدوية والأبنية واللباس من أجزائها، ومعلوم نفي هذا التركيب عن الله، ولا نعلم عاقلاً يقول: إن الله تعالى مركب بهذا الاعتبار، وكذلك التركيب بمعنى أنه مركب من الجواهر المنفردة، أو من المادة والصورة، وهو التركيب الجسمي عند من يقول به، وهذا أيضاً منتف عن الله تعالى.

والذين قالوا: إن الله جسم قد يقول بعضهم إنه مركب هذا التركيب، وإن كان كثير منهم بل أكثرهم ينفون ذلك ويقولون: إنما نعنى بكونه جسماً أنه موجود أو أنه قائم بنفسه أو أنه يشار إليه، أو نحو ذلك.

لكن بالجملة: هذا التركيب، وهذا التجسيم: يجب تنزيه الله تعالى عنه" [منهاج السنة النبوية (2/538)].

والحاصل أن الجسد والبدن ينفى عن الله تعالى.

وأما الجسم، ففيه تفصيل.

ولو قيل: نحن لا نثبت لفظ الجسم ولا ننفيه؛ لعدم ورود ذلك نفيا أو إثباتا، وأما المعنى فإننا ننفي الجسمية عن الله بالمعنى اللغوي، والمعنى الذي أراده الفلاسفة، والأشاعرة، لكنا حسنا؛ لأنه يقلل من تشنيع الجهال.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب