الحمد لله.
أولًا :
اختلف العلماء في اسم الله (الرحمن)، من حيث عربيته، فذهب أكثرهم إلى أنه اسم عربي، وصححه الواحدي، قال: "والصحيح أنه مشتق من الرحمة، وأنه اسم عربي لوجود هذا البناء في كلامهم، كاللهفان والندمان والغضبان.
قال الليث: (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) اسمان، اشتقاقهما من الرحمة" انتهى من "التفسير البسيط" (1/458).
وقد أجاب العلماء على قول المشركين: (وما الرحمن) بأجوبة منها:
1- أنهم جحدوا الاسم تكذيبًا منهم، مع علمهم به.
2- أنهم سألوا عن صفته، ولذلك قالوا : (وما)، ولم يقولوا (ومن).
قال الطبري: " وقد زعم بعض أهل الغباء: أن العرب كانت لا تعرف الرحمن، ولم يكن ذلك في لغتها؛ ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا) إنكارا منهم لهذا الاسم، كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أو كأنه لم يتل من كتاب الله قول الله: الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه -يعني محمدا- كما يعرفون أبناءهم وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبوته جاحدون؛ فيَعلمَ بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته، واستحكمت لديهم معرفته.
وقد أنشد لبعض الجاهلية الجهلاء:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها … ألا قضب الرحمن ربي يمينها
وقال سلامة بن جندل الطهوي:
عجلتم علينا عجلتينا عليكم … وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق" انتهى من "تفسير الطبري"(1/ 130 - 131).
وقال الواحدي : "وأما ما احتج به أبو العباس من قوله: (وَمَا الرَّحْمَنُ) فهو سؤال عن الصفة، ولذلك قالوا: (وَمَا الرَّحْمَنُ)، ولم يقولوا: ومن، والقوم جهلوا صفته، والاسم كان معلوما لهم في الجملة.
وقيل: هذا على جهة ترك التعظيم منهم" انتهى من "التفسير البسيط" (1/ 458-459)، وانظر : "تفسير الرازي" (24/479).
ثانيًا:
يقول المعلمي اليماني في بحث له:
" وقع من مشركي قريش تعجرُفٌ في شأن الاسم الكريم "الرحمن". قال الله تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا ، وقال تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا .
وقد أشكل وجهُ هذا التعجرف، فقيل: إن القوم لم يكونوا يعرفون هذه الكلمة لا عَلمًا ولا وصفًا.
وهذا مردود بأمور:
الأول: أنَّ الله عزَّ وجلَّ قد أخبر عنهم بقوله في شأن عبادتهم الملائكة: (وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ)الزخرف/20، كما أخبر عنهم بقوله: (سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ)الأنعام/148.
وقال تعالى: (وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ) الأنبياء/26.
وفي صحيح مسلم وغيره في قصة غزوة ذي قَرَد: أنَّ عبد الرحمن الفزاري أغار على إبل النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأنَّه قتَل بعضَ الفرسان من الصحابة، ثم قتله أبو قتادة.
فهذا الرجل كان مشركًا، والغالب أن يكون ولد قبل المبعث ثم قُتل مشركًا.
قال ابن جرير: وقد أُنشِد لبعض الجاهلية الجهلاء:
ألا ضربت تلك الفتاةُ هجينَها … ألا قضَب الرحمنُ ربِّي يمينَها
قال: وقال سلامة بن جَندل الطُّهَوي:
عجِلتم علينا عجلتَينا عليكم … وما يشأ الرحمنُ يعقِدْ ويُطلق
الثاني: أنَّ النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لا يجوز أن يخاطبهم بما لا يعرفون بنحو اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ [الفرقان: 60].
الثالث: أنَّ الله تعالى ذمَّهم على قولهم: "وما الرحمن". ولو كانوا غير عارفين معناه ما استحقُّوا الذمَّ.
وقال الأكثر: إنَّ تعجرفهم من تعنُّتهم.
وهذا هو الظاهر، ولكنه يحتاج إلى بيان.
فأقول: قد أخبر الله تبارك وتعالى عنهم بقوله: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ .
فبان بهذا أنَّ القوم لم يكونوا يراعون في معارضة النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – الإنصافَ، ولا ما يقرب منه، بل إن تيسَّرت لهم شبهة قد ينخدع بها من لم يسمع كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم – بتمامه، طاروا بها فرحًا، ورقصوا لها طربًا. وإن لم يتيسَّر لهم ذلك، تشبثوا بمغالطة يعرفون بطلانها، كأن يحملوا كلامه على ما يعرفون أنه غير مراده، ثم يلغَون بذلك، ويشنِّعون به، ويبنُون عليه.
وكان يلذُّ لهم ذلك، لعلمهم أنَّ ذلك يَحزُن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - حتى يكاد يبخَع نفسَه ــ بأبي هو وأمي ــ لأنَّ الناصح الشفيق لا يَحزنه أن يعارضه المنصوح بشبهة قد يظنها المنصوح حقًّا، كما يَحزنه أن يشغب عليه بمغالطة يعرف الشاغبُ نفسه بطلانها، ولاسيما إذا نسب إلى الناصح ما ينافي نصحه، ولكن القوم ــ كما هو متواتر عنهم ــ لم يبلغوا في الوقاحة إلى درجة المكابرة المكشوفة أو الكذب المكشوف.
إذا تقرر هذا، فالظاهر أنَّ بعض سفهائهم سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: "يا الله، يا رحمن"، كما في الأثر السابق أو نحو ذلك، فأوحى الشيطان إلى ذلك السفيه أن يشغب بأنَّ معنى ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما هو إثباتُ أنَّ الرحمن إله آخر غيرُ الله عزَّ وجلَّ، فأخذها منه السفهاء ولَغَوا بها. وأكثرهم يعلم حقيقة الحال، ولكنَّ مقصودَهم الغلَبُ بأيِّ وجه كان، كما أخبر الله تعالى عنهم لما قيل لهم: اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ بنوا على ذلك الشغب المتقدم، فقالوا: وَمَا الرَّحْمَنُ زاعمين أنه قد عُرِف عن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه يعني بالرحمن إلهًا غير الله، وأنهم لا يدرون ما ذلك الإله. ثم صاروا يشغبون ويستهزئون كلَّما سمعوا من النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كلمة (الرحمن) زاعمين أنه قد عُرِف عنه أنه يعني بها غير الله.
وكان مما يغيظهم من هذا الاسم وقوعُه في البسملة المخالفة لتسميتهم. فإنهم كانوا يقولون في أوائل كتبهم ونحوها: "باسمك اللهم"، فخالفهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -، وقال: "بسم الله الرحمن الرحيم"، فيقولون في أنفسهم: إنَّ هذا الرجل إنما يريد خلافنا، هَبْه اضطُرَّ إلى مخالفتنا في عبادة غير الله تعالى لأنه يراها باطلًا، فما باله يخالفنا في هذه الكلمة التي مضى عليها سلفُنا، وليس في معناها شيء ينكره محمد، وهي: "باسمك اللهم"! فمخالفته لنا ولسلفنا فيها دليل ظاهر على أنه يحبُّ خلافَنا وهدمَ كلِّ ما نحن عليه، وإن كان يعلم أنه حقٌّ.
وهذه شبهة من شبههم تؤثِّر على من لم يكثُر منهم سماعُ القرآن أو سماعُ كلام النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -. فأمر الله تبارك وتعالى رسوله أن لا يجهر في صلاته بأصحابه بقراءته، ولاسيما ما كان فيه ذكرُ الرحمن، ولاسيما البسملة التي يشتدُّ إنكار المشركين بها. وذلك لئلا يسمعوه، فيلغَوا، وينغِّصوا عليه وعلى أصحابه صلاتهم، ويظهر أنَّ هذا أصلُ مشروعية الإسرار بالبسملة في الصلاة، بقيتْ على رأي من يقول بذلك، كما بقي الرمل والاضطباع في الطواف وغيره من الأعمال التي شُرعت لمعنًى، ثم زال ذلك المعنى، وبقيت لحِكَمٍ أخرى، منها: تذكير المسلمين بما كان عليه أول هذا الدين.
وأما ما في "الصحيح" من كلام سهيل بن عمرو، فقد اختلفت الروايات في حكاية قوله.
والذي عند ابن إسحاق عن الزهري في هذه القصة: "ثم دعا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - علي بن أبي طالب رضوان الله عليه، فقال: اكتب "بسم الله الرحمن الرحيم". قال: فقال سهيل: لا أعرف هذا. ولكن اكتب "باسمك اللهم".
فظاهرُ هذا مع ما تقدَّم: أنَّ سهيلًا إنما أنكر البسملة لمخالفتها ما مضوا عليه من قولهم: "باسمك اللهم". وقوله: "لا أعرف هذا" : يعني أنَّ السنة التي نعرفها هي: "باسمك اللهم"، و"بسم الله الرحمن الرحيم" غير معروفة عندهم، أي غير معروف الابتداء بها.
فأما ما وقع في "الصحيح" من قوله: "أما الرحمن فوالله ما أدري ما هي" ربما يكون من الرواية بالمعنى، كأنَّ بعض الرواة فهم أنَّ إنكار سهيل لـ "بسم الله الرحمن الرحيم" ، إنما هو لما عُرِف عنهم من الشغب في هذا الاسم الشريف "الرحمن".
ويحتمل أن يكون من إطلاق الجزء وإرادة الكل. أُطلق "الرحمن"، وأُريد البسملة كلها. وقد يشهد له قوله: "ما هي" كما في أكثر روايات "الصحيح" وأوثقها.
وما وقع في بعض الروايات "ما هو" : من تصرُّف الرواة؛ ظنَّ أنَّ الضمير عائد على الاسم "الرحمن"، بمعناه الحقيقي.
والحديث في "الصحيح" من رواية عبد الله بن محمد عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري.
وقد رواه الإمام أحمد عن عبد الرزاق، فوقع في نسخة المسند المطبوعة (4/ 330): "فقال سهيل: أما الرحمن؛ فوالله ما أدري ما هو. وقال ابن المبارك: ما هو". كذا، والظاهر أن الأولى: "ما هي". وهي رواية عبد الرزاق عن معمر. وتكون رواية ابن المبارك عن معمر: "ما هو". ورواية عبد الرزاق أثبت؛ لأنه لزم معمرًا، وسمع من كتبه. وسماعُ ابن المبارك من معمر، كان من حفظه كما يعرف من ترجمة معمر.
وقوله: "فوالله لا أدري ما هي": يريد - والله أعلم - البسملة .
محملُه: أنه لا يدري أينبغي أن يصدَّر بها الكتب أم لا، أو أحقٌّ هي أم باطل وبالجملة.
فالظاهر أنَّ سهيلاً إنما أنكر البسملة، والله أعلم.
وأما ما في بعض الآثار أنهم كانوا يقولون: لا نعرف الرحمن إلا رحمان اليمامة، فإن صحَّ فمرادهم: لا نعرف الرحمن، الذي هو غير الله". انتهى من "تفسير البسملة - ضمن آثار المعلمي" (7/ 56-64).
ثانيًا :
أما عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، فاسمه في الجاهلية كان (عبد عمرو)، قال: "عن عبد الرحمن بن عوف قال: كان اسمي عبد عمرو، فسماني رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن" انتهى من "معجم الصحابة" للبغوي (4/405).
وقال ابن عبد البر : "كَانَ اسمه فِي الجاهلية: عَبْد عَمْرو، وقيل: عَبْد الكعبة، فسماه رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَبْد الرَّحْمَن".
"أسد الغابة في معرفة الصحابة" (3/376)، وانظر : "الإصابة في تمييز الصحابة" (4/ 290 -291).
والله أعلم.
تعليق