الحمد لله.
الحديث المشار إليه رواه البخاري (7068)؛ عَنِ الزُّبَيْرِ بْنِ عَدِيٍّ، قَالَ: " أَتَيْنَا أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ، فَشَكَوْنَا إِلَيْهِ مَا نَلْقَى مِنَ الحَجَّاجِ، فَقَالَ: اصْبِرُوا، فَإِنَّهُ لاَ يَأْتِي عَلَيْكُمْ زَمَانٌ إِلَّا الَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ. سَمِعْتُهُ مِنْ نَبِيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ".
هذا الحديث يشير إلى ازدياد انتشار الشر بمرور الأعوام، وهذا الخبر لم يرد على وجه قطع الأمل في رحمة الله تعالى، وإنما ورد للتحذير حتى يستعد المسلم لهذه الشرور بوسائل النجاة منها، بالتزود بالعلم والتقوى والصبر.
ثم الحديث فيه إخبار بكثرة الشر، وكثرة الشر لا تعني غياب الخير، فمهما كثر الشر فالخير غير منقطع حتى يأتي أمر الله تعالى وتقوم الساعة.
وهذا الشر محمول عند أهل العلم على أحد محملين:
المحمل الأول:
أن المقصود بالشر، قلة العلم وكثرة الجهل بشرع الله تعالى.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
" ثم وجدت عن عبد الله بن مسعود التصريح بالمراد، وهو أولى بالاتباع، فأخرج يعقوب بن شيبة من طريق الحارث بن حصيرة عن زيد بن وهب، قال: سمعت عبد الله بن مسعود يقول: لا يأتي عليكم يوم إلا وهو شر من اليوم الذي كان قبله، حتى تقوم الساعة، لست أعني رخاء من العيش يصيبه، ولا مالا يفيده ؛ ولكن لا يأتي عليكم يوم الا وهو أقل علما من اليوم الذي مضى قبله، فإذا ذهب العلماء استوى الناس، فلا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر، فعند ذلك يهلكون ). ومن طريق أبي إسحاق عن أبي الأحوص عن ابن مسعود إلى قوله: ( شر منه )، قال فأصابتنا سنة خصب، فقال: ليس ذلك أعني، إنما أعني ذهاب العلماء..." انتهى من"فتح الباري" (13/21).
وقلة العلم لا تعني انقطاعه، فقد بشر النبي صلى الله عليه وسلم ببقاء حملته إلى أن يأتي أمر الله تعالى وتقوم الساعة، فهذا الدين لا يزال أمره مستقيما ولا يزال الحق معروفا، فلا ينعدم كلية من الأرض.
كما في حديث جابر قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ رواه مسلم (156).
وعَنْ مُعَاوِيَةَ بْن أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا أَنَا قَاسِمٌ وَيُعْطِي اللَّهُ، وَلَنْ يَزَالَ أَمْرُ هَذِهِ الأُمَّةِ مُسْتَقِيمًا حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ: حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ رواه البخاري (7312)، ومسلم (1037).
المحمل الثاني:
المقصود بالشر كثرة الظلم والجور في الحكم، كما يشير إليه سبب تحديث أنس رضي الله عنه بهذا الحديث، وهو كثرة ظلم الحجاج أمير العراق يومئذ.
وعلى هذا المحمل، فالخبر خرج مخرج الغالب، فالظلم يزداد في غالب الأحوال، لكن ليس دوما، فقد يظهر أهل العدل بين الحين والآخر، ويدل لهذا واقع الحال، وما أشارت إليه بعض النصوص من خروج المهدي في آخر الزمان واستقامة حال الأمة يومئذ.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
"وقد حمله الحسن البصري على الأكثر الأغلب، فسئل عن وجود عمر بن عبد العزيز بعد الحجاج؟ فقال: لا بد للناس من تنفيس" انتهى من "فتح الباري" (13/21).
وقال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" إن قال قائل: ما وجه هذا ونحن نعلم أنه جاء بعد الحجاج عمر بن عبد العزيز، فبسط العدل وصلح الزمان؟
فالجواب: أن الكلام خرج على الغالب، فكل عام تموت سنة وتحيا بدعة، ويقل العلم، ويكثر الجهال، ويضعف اليقين، وما يأتي من الزمان الممدوح نادر قليل" انتهى من "كشف المشكل" (3 / 295).
وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى:
" فهذا الحديث ينبغي أن يفهم على ضوء الأحاديث المتقدمة وغيرها؛ مثل أحاديث المهدي، ونزول عيسى عليه السلام؛ فإنها تدل على أن هذا الحديث ليس على عمومه؛ بل هو من العام المخصوص، فلا يجوز إفهام الناس أنه على عمومه، فيقعوا في اليأس الذي لا يصح أن يتصف به المؤمن؛ ( إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ). أسأل الله أن يجعلنا مؤمنين به حقا " انتهى من "سلسلة الأحاديث الصحيحة" (1/36).
وراجع لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم: (279871 ).
والله أعلم.
تعليق