الحمد لله.
أولًا:
دعا الله سبحانه وتعالى لتدبر القرآن، والتفكر في آياته، وقد قال سبحانه: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا النساء/82، وقال: أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا محمد/24، وقال: كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ ص/29.
ودعا إلى التفكر في الأمثال والقصص، قال سبحانه: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ العنكبوت/43، وقال: وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ الحشر/21.
ومن المهم أن يتخذ الإنسان من الأسباب ما يدعوه إلى التدبر، والإقبال على كتاب الله، وفي القرآن نفسه من الأمور التي تدعو إلى إحسان التدبر والتفكر كالتكرار.
قال الزمخشري: "فإن قلت: ما فائدة تكرير قوله: فَذُوقُوا عَذَابِي ونُذُرِ * ولَقَدْ يَسَّرْنَا القُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ؟
قلت: فائدته أن يجددوا عند استماع كل نبأ من أنباء الأولين ادكارًا واتعاظًا، وأن يستأنفوا تنبهًا واستيقاظًا، إذا سمعوا الحث على ذلك والبعث عليه، وأن يقرع لهم العصا مرات، ويقعقع لهم الشن تارات؛ لئلا يغلبهم السهو، ولا تستولي عليهم الغفلة، وهكذا حكم التكرير، كقوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ عند كل نعمة عدها في سورة الرحمن، وقوله: وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ عند كل آية أوردها في سورة وَالْمُرْسَلاتِ، وكذلك تكرير الأنباء والقصص في أنفسها لتكون تلك العبر حاضرة للقلوب، مصورة للأذهان، مذكورة غير منسية في كل أوان".
انتهى من "فتوح الغيب في الكشف عن قناع الريب" (15/ 138-139).
وأيضًا فإن الناظر يجد أن القرآن يتخذ "الصورة وسيلة للتعبير عن معانيه الدينية، لأن الصورة أقوى تأثيرًا في النفوس من التعبير المجرد، كما أنها تزيد من وضوح هذه المعاني في الأذهان، حين تعرض، في صور محسوسة، قريبة من الإدراك والفهم".
انتهى من "وظيفة الصورة الفنية في القرآن" (ص99).
"فالمعاني الذهنية المرتبطة بالظواهر الكونية، تصوّر بصور مختلفة يقتضيها السياق، كالموج مثلًا يقول الله تعالى: (وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ) هود/ 42؛ فضخامة الموج وارتفاعه، تصوّر بالجبال، وصورة الجبال مألوفة مشاهدة، توحي بضخامة الموج وارتفاعه، والسياق الواردة فيه: يقتضي هذه الصورة دون غيرها، فقد ورد في السياق القرآني أن ابن نوح ردّ على نداء أبيه بقوله: (سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ) هود/ 42 - 43.
فتصوير الموج هنا بالجبال، جاء محقّقا الغرض الديني في تأكيد الإغراق، كما أنه جاء متناسقا مع السياق، وحين يتغير السياق، نلاحظ أن الموج يصوّر بـ الظلل ليوحي بالفزع والرهبة. يقول الله تعالى: وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لقمان/ 32.
فالسياق هنا كلّه خوف وفزع ورهبة، وهؤلاء الناس لا يعرفون ربهم إلا في الشدة، لهذا فإن صورة الموج هنا تصبح ظللا ترتفع فوق الرؤوس، حتى تكاد تطبق عليهم لتفرقهم".
انتهى من "وظيفة الصورة الفنية في القرآن" (ص100-101).
ثانيًا:
استحضار المشاهد المذكورة في كتاب الله، وتخيل ما حصل من أصحابها وقع شيء منه عند الصحابة رضي الله عنهم.
ومن ذلك ما رواه "الطبري" عن ابن زيد في قوله: "وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم [البقرة: 206] إلى قوله: والله رءوف بالعباد قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صلى السبحة وفرغ، دخل مربدا له، فأرسل إلى فتيان قد قرءوا القرآن، منهم ابن عباس، وابن أخي عيينة، قال: فيأتون فيقرءون القرآن ويتدارسونه، فإذا كانت القائلة انصرف.
قال فمروا بهذه الآية: وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم ، ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رءوف بالعباد قال ابن زيد: وهؤلاء المجاهدون في سبيل الله.
فقال ابن عباس، لبعض من كان إلى جنبه: اقتتل الرجلان.
فسمع عمر ما قال، فقال: وأي شيء قلت؟
قال: لا شيء يا أمير المؤمنين.
قال: ماذا قلت؟ اقتتل الرجلان؟ قال: فلما رأى ذلك ابن عباس، قال: أرى هاهنا من إذا أمر بتقوى الله أخذته العزة بالإثم، وأرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله؛ يقوم هذا فيأمر هذا بتقوى الله، فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم، قال هذا: وأنا أشتري نفسي فقاتله، فاقتتل الرجلان.
فقال عمر: لله بلادك يا ابن عباس" انتهى من "تفسير الطبري" (3/ 588).
فقد استحضر ابن عباس رضي الله عنهما صورة الرجلين، وما حصل منهما حال تلاوته للقرآن، ووتصور المحاورة التي جرت بينهما حتى أدت إلى قتل أحدهما للآخر، وكل هذا من باب استحضار الصورة في الذهن.
وفي كتاب الله الإشارة إلى شيء من ذلك، ومنه قوله سبحانه: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا الكهف/18.
فهنا صورة يستدعي القرآن إحضارها في الذهن، بقوله: (لو اطلعت عليهم).
ولعل من هذا الباب؛ باب تحقيق المعاني، واستحضارها، كأنها حاضرة للعيان:
ما رواه مسلم في "صحيحه" (2750): عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ، قَالَ: - وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟
قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا.
فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَمَا ذَاكَ؟
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا .
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ".
وعليه: فلا بأس أن يستحضر الإنسان الصورة في ذهنه، ما لم يخرج بها إلى حد الإغراق والبعد عن المقصد الأساس، وهو: تدبر القرآن وفهم معانيه.
ومن الضوابط كذلك ألا يستحضر الإنسان في ذهنه ما نهي عنه، ككيفية الصفات، وما لا يمكن أن يصل إليه، ككيفية نعيم أهل الجنة.
وانظر الجواب رقم: (260258).
والله أعلم.
تعليق