الحمد لله.
أولًا:
نزول سورة (المدثر).
روى الإمام البخاري (4922)، ومسلم (161) عن أبي سَلَمَةَ وسأله رجل : ( أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ ؟ ) قَالَ : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) ، فَقُلْتُ : أَوِ اقْرَأْ ، فَقَالَ : سَأَلْتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللهِ : أَيُّ الْقُرْآنِ أُنْزِلَ قَبْلُ ؟ قَالَ : ( يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) ، فَقُلْتُ : أَوِ اقْرَأْ ، قَالَ جَابِرٌ : أُحَدِّثُكُمْ مَا حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : جَاوَرْتُ بِحِرَاءٍ شَهْرًا ، فَلَمَّا قَضَيْتُ جِوَارِي نَزَلْتُ فَاسْتَبْطَنْتُ بَطْنَ الْوَادِي ، فَنُودِيتُ فَنَظَرْتُ أَمَامِي وَخَلْفِي ، وَعَنْ يَمِينِي ، وَعَنْ شِمَالِي ، فَلَمْ أَرَ أَحَدًا ، ثُمَّ نُودِيتُ فَنَظَرْتُ فَلَمْ أَرَ أَحَدًا ، ثُمَّ نُودِيتُ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا هُوَ عَلَى الْعَرْشِ فِي الْهَوَاءِ ، - يَعْنِي : جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَأَخَذَتْنِي رَجْفَةٌ شَدِيدَةٌ ، فَأَتَيْتُ خَدِيجَةَ ، فَقُلْتُ : دَثِّرُونِي ، فَدَثَّرُونِي ، فَصَبُّوا عَلَيَّ مَاءً ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر/ 1-5] " انتهى.
والأظهر: أن هذه الآيات الخمس من سورة المدثر نزلت بعد فتور الوحي، وسبقتها آيات سورة العلق.
قال الإمام أبو الحسن الواحدي، عن حديث جابر هذا، بعد أن قرر نزول العلق أولا:
" وهذا ليس بمخالف لما ذكرناه أولًا ؛ وذلك : أَنَّ جابراً سَمِعَ من النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم القصة الأخيرة ولَمْ يسمع أولها ، فتوهم أن سورة المدثر أول ما نَزَل ؛ وليس كَذَلِكَ ، ولكنها أول ما نزّل عَلَيْهِ بَعْدَ سورة : اقْرَأْ.
والذي يدل على هَذَا ما أخبرنا .. عن جابر ، قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - وهو يحدث عن فترة الوحي - فقال في حديثه : ( فَبَينَا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا المَلَك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فَجئِثتُ منه رعبًا ، فرجعت ، فقلت : زمِلوني زمِلوني . فدثروني ، فأنزل الله تَعَالَى : : يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ). رواه البخاري .. ورواه مسلم...
وبان بهذا الْحَدِيْث : أن الوحي كَانَ قَدْ فَتَرَ بَعْدَ نزول : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ، ثُمَّ نزل يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ . والذي يوضح ما قُلْنَا : إخبار النَّبِيّ - صلى الله عليه وسلم - أن المَلَك الَّذِي جاء بحراء جالس ، فدل عَلَى أن هَذِهِ القصة إِنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ نزول : اقْرَأْ " . انتهى، من "أسباب النزول" (2/17).
ثانيًا:
نزول آيات من سورة (المدثر).
عن عبد الله بن عباس - من طريق عكرمة -: أنّ الوليد بن المُغيرة جاء إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ، فقَرأ عليه القرآن ، فكأنه رَقَّ له ، فبَلغ ذلك أبا جهل ، فأتاه ، فقال : يا « عمّ، إنّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا ليُعطوكه ، فإنك أتيتَ محمدًا لتَعرَّض لِما قِبلَه . قال : قد عَلمتْ قريش أني مِن أكثرها مالًا . قال : فقُلْ فيه قولًا يَبلغ قومك أنّك مُنكِرٌ له ، أو أنك كارهٌ له . قال : وماذا أقول ؟ فواللهِ ، ما فيكم رجل أعلم بالشِّعر مني ، ولا برَجَزِهِ ولا بقِصِيده مني ، ولا بأشعار الجنّ ، واللهِ، ما يُشبه الذي يقول شيئًا من هذا ، وواللهِ ، إنّ لِقَوْله الذي يقول حلاوة ، وإنّ عليه لَطلاوة ، وإنه لَمُثمِرٌ أعلاه ، مُغدِقٌ أسفله ، وإنّه لَيَعلو وما يُعلى ، وإنه ليَحْطِم ما تحته . قال : لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه . قال: فدعني حتى أُفكّر . فلما فَكّر قال : هذا سحرٌ يُؤثر ؛ يَأْثُره عن غيره . فنَزلت : ذَرْنِي ومَن خَلَقْتُ وحِيدًا " ، انتهى .
انظر في التوسع في هذه الآثار، "موسوعة التفسير المأثور" (22/ 392).
والآيات المذكورة في النزول في قصة (الوليد): ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ * سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ المدثر/ 11-30.
قال "ابن كثير": "وَهَذَا الْمَذْكُورُ فِي هَذَا السِّيَاقِ هُوَ: الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ الْمَخْزُومِيُّ ، أَحَدُ رُؤَسَاءِ قُرَيْشٍ -لَعَنَهُ اللَّهُ-وَكَانَ مِنْ خَبَرِهِ فِي هَذَا مَا رَوَاهُ الْعَوْفِيُّ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : دَخَلَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ أَبِي قُحَافَةَ فَسَأَلَهُ عَنِ الْقُرْآنِ ، فَلَمَّا أَخْبَرَهُ خَرَجَ عَلَى قُرَيْشٍ، فَقَالَ : يَا عَجَبًا لِمَا يَقُولُ ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ . فَوَاللَّهِ مَا هُوَ بِشِعْرٍ وَلَا بِسَحْرٍ وَلَا بهذْي مِنَ الْجُنُونِ ، وَإِنَّ قَوْلَهُ لمن كَلَامِ اللَّهِ . فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ النفرُ مِنْ قُرَيْشٍ ائْتَمَرُوا فَقَالُوا : وَاللَّهِ لَئِنْ صَبَا الْوَلِيدُ لتصْبُوَنَّ قُرَيْشٌ . فَلَمَّا سَمِعَ بِذَلِكَ أَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ قَالَ : أَنَا وَاللَّهِ أَكْفِيكُمْ شَأْنَهُ . فَانْطَلَقَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ بَيْتَهُ، فَقَالَ لِلْوَلِيدِ: أَلَمْ تَرَ قَوْمَكَ قَدْ جَمَعُوا لَكَ الصَّدَقَةَ ؟ فَقَالَ: ألستُ أَكْثَرَهُمْ مَالًا وَوَلَدًا . فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ : يَتَحَدَّثُونَ أَنَّكَ إِنَّمَا تَدْخُلُ عَلَى ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ لِتُصِيبَ مِنْ طَعَامِهِ . فَقَالَ الْوَلِيدُ : أَقَدْ تَحَدَّثَ بِهِ عَشِيرَتِي ؟! فَلَا وَاللَّهِ لَا أَقْرَبُ ابْنَ أَبِي قُحَافَةَ ، وَلَا عُمَرَ ، وَلَا ابْنَ أَبِي كَبْشَةَ ، وَمَا قَوْلُهُ إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا إِلَى قَوْلِهِ : لَا تُبْقِي وَلا تَذَرُ " انتهى من "تفسير ابن كثير" (8/ 267).
ثالثًا:
ذكر السائل أن أوائل سورة ( غافر ) قرأها النبي صلى الله عليه وسلم على بعض المشركين ، ولعل السائل يقصد أوائل سورة ( فصلت ) ، والمقروء عليه هو : عتبة بن ربيعة ، وقد روى خبر القراءة عليه " ابن أبي شيبة " في " المصنف " (20/361)، " دلائل النبوة " لأبي نعيم الأصبهاني (ص231)، " دلائل النبوة " للبيهقي (2/204) ،
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ: اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يَوْمًا ، فَأَتَاهُ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ اللَّهِ ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَفَرَغْتَ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ( {حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ) فصلت/ 2 ، حَتَّى بَلَغَ ( فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ ) فصلت/ 13 .
" فَقَالَ لَهُ عُتْبَةُ : حَسْبُكَ، حَسْبُكَ ؛ مَا عِنْدَكَ غَيْرُ هَذَا ؟ قَالَ : لَا .
فَرَجَعَ عُتْبَةُ إِلَى قُرَيْشٍ ، فَقَالُوا : مَا وَرَاءَكَ ؟ فَقَالَ : مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ إِلَّا قَدْ كَلَّمْتُهُ. قَالُوا : فَهَلْ أَجَابَكَ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، لَا وَالَّذِي نَصَبَهَا بِنَبِيِّهِ مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ؛ غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ .
قَالُوا: وَيْلَكَ يُكَلِّمُكَ رَجُلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ ، وَلَا تَدْرِي مَا قَالَ ؟ قَالَ : لَا وَاللَّهِ مَا فَهِمْتُ شَيْئًا مِمَّا قَالَ ، غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ )، انتهى .
" المستدرك على الصحيحين ، للحاكم " (2/ 278).
رابعًا :
من المعروف أن ترتيب الآيات والسور في المصحف لم يعتمد على تأريخ نزولها ، وإنما اعتمد على بيان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقراءته للقرآن، وتعليمه ذلك للصحابة.
وفي الحديث: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه من السور ذوات العدد ، فكان إذا نَزلَ عليه الشيء دعا بعض من يكتب له، فيقول: ( ضعوا هذه في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) ، وإذا أُنزِلَت عليه الآيات ، قال : ( ضعوا هذه الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) ، وإذا أُنزِلَت عليه الآية ، قال : ( ضعوا هذه الآية في السورة التي يذكر فيها كذا وكذا ) ، [رواه أحمد: 499].
وأما ترتيب السور في المصحف، ففيه خلاف معتبر عند أهل العلم.
وأقرب القولين أنه قد استقر ترتيب السور في المصاحف، على ما كانت عليه العرضة الأخيرة ، حين عرض النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، على ملك الوحي، جبريل عليه السلام.
وإذا قدر أن ترتيب السور كان اجتهاديا، فقد استقر ترتيبها هكذا في المصحف العثماني، وكان ذلك باجتهاد الصحابة، وإجماعهم عليه، ولا يعلم أن شيئا من ترتيب السور في المصاحف قد تغير عما كان عليه في مصحف عثمان، رضي الله عنه.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (3214).
ومن المعلوم كذلك، أن القرآن نزل على النَّبي صلى الله عليه وسلم مدة ثلاثٍ وعشرين سنة ، وهي مدة بعثته صلى الله عليه وسلم ، قال عز وجل: ( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا ) [الفرقان: 32].
وهناك من سور القرآن ما نزل جملة واحدة ، وأكثر ذلك من قصار السور ، كسورة الفاتحة والقدر والماعون وتبت والكوثر والفيل والنصر والكافرون والإخلاص والفلق والناس وغير ذلك .
ومما ذكره العلماء من غير قصار السور مما نزل جملة واحدة : سورة الأنعام والأعراف والتوبة والكهف والفتح والصف والمرسلات ، على خلاف بينهم في ذلك.
انظر الجواب رقم: (217721).
ولم نقف على من صرح بنزول سورة المدثر جملة واحدة .
ولو افترضنا أن الشخص المقروء عليه واحد ، وهو غلط ، فإن هذا غير ذاك ، فيقال : نزلت أوائل سورة المدثر في بداية بعثة النبي صلى الله عليه وسلم ، ونزل غيرها ، ثم نزلت آيات من سورة (فصلت) بعد ذلك ، ثم نزلت بقية سورة المدثر ، أو الآيات التي فيها ذكره بعد ذلك .
ثم نقول لك:
هوني عليك أيتها السائلة الكريمة؛ فما أنت والوسواس في ذلك، وسواء تقدم نزول هذه أم تأخر، ما الداعي لكل ذلك الوسواس؟ وسواء اتفقت الرواية، أم اختلفت؛ فما أنت وذاك؟
اسألي العالم بالشيء، ودعي عنك الوساوس والشكوك؛ وإن كان بك لمم من وسواس، فتعوذي بالله منه، وإن لم يندفع عنك من قريب، وكنت تعانين من أمر الوساوس، وتعهدين ذلك من نفسك: فاعرضي نفسك على طبيب نفسي ثقة، واسألي الله الشفاء، والسلامة؛ وأما صلاتك، فصوني عن تلك الوساوس، واقرئي فيها بما تحسنين، ويعينك على حضور القلب وخشوعك في الصلاة.
والله أعلم.
تعليق