الحمد لله.
أولًا:
سورة الفيل: "تحكي هذهِ السورةُ قصةَ أَبْرَهَةَ الحبشيِّ الذي جاءَ لهدمِ الكعبةِ في العامِ الذي وُلِدَ فيه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، وتذكُرُ ما حصلَ لهم من العِقاب.
قولُه تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ)؛ أي: ألم تعلمْ بما صنعَهُ الله بأبرهةَ وقومِه الذين غزو مكةَ بجيشٍ فيه أفيال، وأرادوا أن يهدِموا الكعبة؟، لقد جعلَ اللَّهُ سعيَهُم وتدبيرَهم في صَرْفِ الناس عن الكعبةِ ومحاولة هَدْمِها عملاً ضائعاً لا فائدةَ فيه.
قولُه تعالى: (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ* تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ* فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ)؛ أي: وَأَلَمْ تعلمْ بما عاقَبهم به من بَعْثِ طيورٍ من السماءِ جاءت جماعاتٍ كثيرةً متفرِّقةً يتبعُ بعضُها بعضاً.
تحمِلُ حصًى صغيرةً من طين، تُلقيه على أصحابِ الفيل، فتقضي عليهم، حتى صاروا كبقايا الزرعِ المأكولِ الذي تَحَوَّلَ بعد الخُضْرَة والنَّضْرَة، إلى أن صارَ مُلْقًى على الأرضِ يُداسُ بالأقدام؟".
"تفسير جزء عم" للشيخ مساعد الطيار(231 - 232).
وللتوسع في القصة، "اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون" (1/56).
ثانيًا:
من المعلوم أن قصة أبرهة الحبشي، من قصص العرب، وما حصل لهم، وما حصل لبيت الله الذي كانوا يعظمونه، والعرب تذكر أبرهة باسمه، ويعرفونه، ومن ذلك قول قائلهم:
«وأبرهةُ الذي كان اصطفانا … وسوَّسَنا وتاجُ الملك عالي
وقاسَمَ نصفَ إمرته زهيرًا … ولم يك دونه في الأمر والي
وأمّره على حيَّيْ معدٍّ … وأمَّره على الحيّ المُعالي
على ابني وائل لهما مهينًا … يردُّهما على رغم السِّبالِ
بحبسهما بدار الذلّ حتّى … ألمّا يهلكان من الهزالِ
وفي قصيدة للنَّمِر بن تَولَب:
أتى حصنَه ما أتى تُبّعًا … وأبرهةَ الملِكَ الأعظما
وقال لبيد:
لو كان حيٌّ في الحياة مخلَّدًا … في الدهر أدركه أبو يكسومِ
والحارثان كلاهما ومحرّقٌ … أو تُبَّعٌ أو فارسُ اليحمومِ
وقد اكتُشِفَت أخيرًا نقوش على سدّ مأرب كُتبت بأمر أبرهة الأشرم، وفيها نعته بأنه: "ملك سبأ ورَيدان وحضرموت ويمنات وعرب النجاد وعرب السواحل".
انظر:
"التعقيب على تفسير سورة الفيل للفراهي - ضمن آثار المعلمي" (8/ 16-17)
وننصح السائل الكريم، أن يطالع بحث (التعقيب على تفسير سورة الفيل للفراهي - ضمن آثار المعلمي)، فإنه نفيس جدًّا، في فهم القصة، والسورة بعامة، وهي في الجزء (الثامن) من آثار الشيخ العلامة المعلمي اليماني رحمه الله.
ثالثًا:
أما اسم "أبرهة"، فقد أورده "الطبري"، عن قتادة في "جامع البيان" (24/635)، وانظر: "تفسير الثعلبي" (30/266)، "البداية والنهاية" (3/137)، وذكره "البلنسي" ولم يحك فيه خلافًا، "تفسير مبهمات القرآن" (2/743).
وللتوسع في الروايات، انظر: "موسوعة التفسير المأثور" (23/558)، وذكروا اسمه عن ابن عباس، والحسن، وقتادة، وغيرهم.
رابعًا:
ولو قدرنا - تنزلًا - أن اسمه إنما أخذ من الإسرائيليات، فقد ثبت جواز التحديث عنهم، وفي مثل هذا يجوز باتفاق العلماء أن نتحدث عنهم بها، وكتب التفسير ملأى بذلك.
وعن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (بلغوا عني ولو آية، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومن كذب علي متعمدًا، فليتبوأ مقعده من النار).
رواه "البخاري": (3461).
قال "ابن كثير": "وإنما أباح الشارع الرواية عنهم في قوله: وحدثوا عن بني إسرائيل، ولا حرج فيما قد يجوزه العقل، فأما فيما تحيله العقول ويحكم عليه بالبطلان، ويغلب على الظنون كذبه، فليس من هذا القبيل، والله أعلم"، انتهى من "تفسير ابن كثير" (7/394).
وقد قال "الشافعي": "أباح الحديث عن بني إسرائيل عن كل أحد، وأنه من سمع منهم شيئًا جاز له أن يحدث به، عن كل من سمعه منه، كائنًا من كان، وأن يخبر عنهم بما بلغه، لأنه والله أعلم، ليس في الحديث عنهم ما يقدح في الشريعة، ولا يوجب فيها حكمًا، وقد كانت فيهم الأعاجيب فهي التي يحدث بها عنهم، لا شيء من أمور الديانة".
"التمهيد، لابن عبد البر"(1/43).
وقد قسم العلماء الموقف من أخبار بني إسرائيل إلى ثلاثة أقسام:
1- ما علمنا صحته بشهادة شرعنا له بالصدق.
وهذا القسم نستغني بما ورد في شريعتنا عنه، كقصة أصحاب أهل الكهف.
ونستفيد مما ورد عن أهل الكتاب في تقوية المعنى، وتعضيده، والاتعاظ به والاعتبار.
2- ما علمنا كذبه بما في شرعنا مما يخالفه، فهذا باطل مردود.
3- ما لم نعلم صدقه ولا كذبه، فهذا موقوف لا نصدقه ولا نكذبه، وتجوز حكايته والاعتبار به، ويصح الاستشهاد به والاعتضاد.
انظر: "مجموع الفتاوى" (13/366)، "الاستدلال على المعاني في تفسير الطبري" (507 - 510)، "المفسرون من الصحابة"(2/881).
وباستقراء تفاسير الصحابة رضي الله عنهم: نجد أنَّهم اعتمدوا على الإسرائيليات، ومثلت حيِّزًا من تفاسيرهم، فقد بلغت الإسرائيليات قرابة العشر (10%) من تفسير ابن عباس، و(8%) من تفسير ابن مسعود.
قال "المعلمي اليماني": ".. فأما ما كان من قَبِيل الوقائع التاريخية التي تتعلق بما في القرآن: فلم يكن هو ولا غيره يرى في ذلك حرجًا، كيف وقد صحَّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: بلِّغوا عني ولو آية، وحدَّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج، ومَن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار، رواه البخاريُّ وغيره.
ومَن تَتَبَّع ما يُرْوَى عن ابن عبَّاسٍ وغيره من الصحابة رضي الله عنهم من التفسير: عَلِمَ صحَّة ما قلناه. وفي تفسير ابن جريرٍ عدَّة آثارٍ في سؤال ابن عبَّاسٍ كعبَ الأحبار عن أشياء من القرآن، وسؤاله غير كعبٍ من أحبار اليهود، والله أعلم"، ونبَّه على أمرٍ مهم، وهو قوله: «كان الصحابة رضي الله عنهم في غنى تامّ بالنسبة إلى سنة نبيهم، إن احتاج أحدٌ منهم إلى شيء رجع إلى إخوانه الذين صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم وجالسوه، وكان كعب أعقل من أن يأتيهم فيحدثهم عن نبيهم فيقولوا: مَنْ أخبرك؟ فإن ذَكَرَ صحابيًّا سألوه فيَبِين الواقع، وإن لم يذكر أحدًا كذَّبوه ورفضوه. إنما كان كعب يعرف الكتب القديمة، فكان يحدِّث عنها بآداب وأشياء في الزهد والورع، أو بقصص وحكايات تناسب أشياء في القرآن أو السنة، فما وافق الحقَّ قبلوه، وما رأوه باطلًا قالوا: مِنْ أكاذيب أهل الكتاب، وما رأوه محتملًا، أخذوه على الاحتمال كما أمرهم نبيهم صلى الله عليه وسلم.
ذلك كان فنَّ كعب وحديثَه. ولم يرو عنه أحد من الصحابة إلا ما كان من هذا القبيل".
"آثار الشيخ العلامة المعلمي اليماني"(2/ 384-385)، "آثار الشيخ العلامة المعلمي اليماني": (12/ 145-146).
والله أعلم.
تعليق