الحمد لله.
أولًا:
قال الله سبحانه: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ) الأعراف/143.
يقول الشيخ السعدي في تفسير هذه الآية: "وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا الذي وقتناه له لإنزال الكتاب وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ بما كلمه من وحيه وأمره ونهيه، تشوق إلى رؤية الله، ونزعت نفسه لذلك، حبا لربه ومودة لرؤيته.
فـ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ اللَّهِ لَنْ تَرَانِي أي: لن تقدر الآن على رؤيتي، فإن الله تبارك وتعالى أنشأ الخلق في هذه الدار على نشأة لا يقدرون بها، ولا يثبتون لرؤية الله، وليس في هذا دليل على أنهم لا يرونه في الجنة، فإنه قد دلت النصوص القرآنية والأحاديث النبوية على أن أهل الجنة يرون ربهم تبارك وتعالى ويتمتعون بالنظر إلى وجهه الكريم، وأنه ينشئهم نشأة كاملة، يقدرون معها على رؤية الله تعالى، ولهذا رتب الله الرؤية في هذه الآية على ثبوت الجبل، فقال - مقنعًا لموسى في عدم إجابته للرؤية - وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ إذا تجلى الله له فَسَوْفَ تَرَانِي .
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ الأصم الغليظ جَعَلَهُ دَكًّا أي: انهال مثل الرمل، انزعاجًا من رؤية الله وعدم ثبوته لها. وَخَرَّ مُوسَى حين رأى ما رأى صَعِقًا فتبين له حينئذ أنه إذا لم يثبت الجبل لرؤية الله، فموسى أولى أن لا يثبت لذلك، واستغفر ربه لما صدر منه من السؤال، الذي لم يوافق موضعًا، ولذلك قَالَ سُبْحَانَكَ أي: تنزيها لك، وتعظيما عما لا يليق بجلالك تُبْتُ إِلَيْكَ من جميع الذنوب، وسوء الأدب معك وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ أي: جدد عليه الصلاة والسلام إيمانه، بما كمل الله له مما كان يجهله قبل ذلك، فلما منعه الله من رؤيته - بعدما ما كان متشوقا إليها - أعطاه خيرًا كثيرًا"، انتهى من "تفسير السعدي" (302).
ثانيًا:
قال سبحانه في ذكر مناداته لموسى عليه السلام: (وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا) مريم/52، وقال: (فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) القصص/29، (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) القصص/46.
والمشهور عند أكثر العلماء أن الله سبحانه وتعالى ناجى موسى عليه السلام عند جبل الطور المعروف بسيناء.
وإن حصل اختلاف بينهم في لفظ "الطور"، فذكر بعضهم أنه الجبل أي جبل كان، وذكر بعضهم أنه اسم للجبل الذي نادى الله سبحانه وتعالى منه موسى عليه السلام.
انظر اختلافهم في "تفسير الطبري": (2/ 48 - 51).
والمشهور عند أكثر أهل التفسير أن الجبل هو جبل الطور، وهو الجبل المعروف بسيناء، ولا فرق أن يقال: سيناء، أو: الشام، فإن سيناء من بلاد الشام كذلك، وهي الآن تابعة لبلاد مصر جغرافيًّا بحسب التقسيمات المعروفة، وكانت قديمًا تابعة لفلسطين.
وقال ابن زيد، في قوله: طور سيناء قال: هو جبل الطور الذي بالشام، جبل ببيت المقدس، قال: ممدود، هو بين مصر وبين أيلة.
"تفسير الطبري" (17/30).
وقال "ابن عاشور": "وطور سيناء: جبل في صحراء سيناء الواقعة بين عقبة أيلة، وبين مصر، وهي من بلاد فلسطين في القديم، وفيه ناجى موسى ربه تعالى".
"التحرير والتنوير" (18/34).
وممن ذكر ذلك: الإمام "الثعلبي"، قال: "والطور جبل بين مصر ومدين"، انتهى من "تفسير الثعلبي" (17/393).
وقال "البغوي"، قال: "قال أهل التفسير: إن موسى عليه السلام تطهر، وطهر ثيابه لميعاد ربه، لما أتى طور سيناء"، انتهى.
"تفسير البغوي" (3/275)، وانظر: "التيسير في التفسير" (6/504)، "تفسير ابن كثير" (3/ 468).
وقال "ياقوت": "سيناء: اسم موضع بالشام يضاف إليه الطور، وهو اسم الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام"، انتهى.
"معجم البلدان" لياقوت (3/300)، وانظر: "الأماكن، ما اتفق لفظه وافترق مسماه" (639).
وهذا هو المتوافق مع القصة، فإن موسى عليه السلام كان راجعًا من "مدين" إلى "مصر".
وقد ذكر بعض العلماء أن الجبل بمدين، وربما كان الجبل ممتدًّا على طول تلك المنطقة، وقد نقلناه عن "الثعلبي"، وذكر "الواحدي" عن "الفراء".
"التفسير البسيط" (2/630)، (20/475).
و"مدين" على بحر القلزم، وهو المعروف حاليًا بالبحر الأحمر، محاذية لتبوك على نحو من ست مراحل، وهي أكبر من تبوك، وبها البئر التي استقى منها موسى عليه السلام لسائمة شعيب".
انظر: "معجم البلدان" (5/77).
ولم نر أحدًا ذكر أنه بالسودان، والله أعلم، وهو بعيدٌ جدًّا، إذ المعلوم من قصة موسى عليه السلام أنه كان راجعًا إلى مصر.
والله أعلم.
تعليق