الحمد لله.
أولا:
يقول الله تعالى: إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ * وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ المعارج/19-35.
ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآيات الكريمات:
1- الدوام على الصلاة.
2- المحافظة على الصلاة.
«وبكلِّ حال، فالصلاة لها شأنٌ انفردت به عن سائر الأعمال، ويتبيَّن ذلك من وجوه.
أحدها: أنَّ الله سمَّى الصلاة إيمانًا، بقوله: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ، يعني: صلاتَكم إلى بيت المقدس؛ لأنَّ بالصلاة يُصدِّق عملُه قولَه، وتحصل طمأنينة القلب واستقراره إلى الحق. ولا يصحُّ أن يكون المراد به مجرَّد تصديقهم بفرض الصلاة، لأن هذه الآية نزلت فيمن صلَّى إلى بيت المقدس، ومات ولم يدرك الصلاة إلى الكعبة. ولو كان المراد به مجرَّد التصديق لَشَركَهم في ذلك كلُّ الناس إلى يوم القيامة؛ فإنهم يصدِّقون بأن الصلاة إلى بيت المقدس إذ ذاك كانت حقًّا، ولم يتأسَّفوا على تصديقهم بفرض معين لم ينزل، كما لم يتأسَّفوا على ترك تصديقهم بالحج وغيره من الفرائض.
ولم يكن اعتبار تصديقهم بالصلاة فقط أولى من تصديقهم بجميع ما جاء به الرسول.
هذا مع أنه خروج عمَّا عليه أهل التفسير، وعمَّا يدل عليه الكلام.
الثاني: أنَّ الله افتتَح أعمالَ المفلحين بالصلاة فقال: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وختمها بالصلاة فقال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون: 1 - 9].
وكذلك ثُنْياه في قوله: إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ، إلى قوله: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المعارج: 22 - 34]، الآيات، جمعَتْ خصالَ أهل الجنة، وملاكُها: الصلاة ..."، انتهى، بتصرف، من "شرح عمدة الفقه" لابن تيمية (2/ 83 - 84)، وانظر بقية الوجوه هناك.
ثانيا:
وأما الفرق بين المحافظة على الصلاة والدوام عليها، فقد يقال هنا: إن هذه الألفاظ حال انفرادها مما يدخل تحت قاعدة: (إذا اجتمعا افترقا، وإذا افترقا اجتمعا)؛ وذلك لأن الله تعالى قد ذكر المحافظة على الصلاة في سورة "المؤمنون"، فقال: وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [المؤمنون: 9]، وذكر الله تعالى المحافظة عمومًا في قوله: حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ [البقرة: 238، وقال: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ [الأنعام: 92].
والمحافظة هنا معناها: حفظ أوقات الصلاة، وعدم الانشغال عنها حتى تفوت، بل مراعاتها حتى تؤدى في أوقاتها، وذلك يستلزم الدوام على فعلها.
وانظر صنيع الطبري في "تفسيره" (17/ 13).
وأما في حال اجتماع هذه الألفاظ، أو بعضها، كما في (سورة المعارج)، فقد اختلف العلماء في الفرق بينهما:
1- فقال بعض العلماء: إن الدوام يرجع إلى نفس الصلاة، والمحافظة ترجع إلى أحوال الصلاة.
قال "الزمخشري": "فإن قلت: كيف قال: (عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ)، ثم على صلاتهم يحافظون؟
قلت: معنى دوامهم عليها أن يواظبوا على أدائها، لا يخلون بها، ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: أفضل العمل أدومه وإن قل، وقول عائشة: كان عمله دِيمة.
ومحافظتهم عليها: أن يراعوا إسباغ الوضوء لها، ومواقيتها، ويقيموا أركانها ويكملوها بسننها وآدابها، ويحفظوها من الإحباط باقتراف المآثم.
فالدوام يرجع إلى أنفس الصلوات، والمحافظة إلى أحوالها"، انتهى، من "الكشاف" مع "حاشية الطيبي". (16/ 23).
وقال "الرازي": "معنى دوامهم عليها: أن لا يتركوها في شيء من الأوقات.
ومحافظتهم عليها: ترجع إلى الاهتمام بحالها، حتى يؤتى بها على أكمل الوجوه، وهذا الاهتمام إنما يحصل تارة بأمور سابقة على الصلاة، وتارة بأمور لاحقة بها، وتارة بأمور متراخية عنها.
أما الأمور السابقة فهو أن يكون قبل دخول وقتها متعلق القلب بدخول أوقاتها، ومتعلق [القلب] بالوضوء، وستر العورة وطلب القبلة، ووجدان الثوب والمكان الطاهرين، والإتيان بالصلاة في الجماعة، وفي المساجد المباركة، وأن يجتهد قبل الدخول في الصلاة في تفريغ القلب عن الوساوس والالتفات إلى ما سوى الله تعالى، وأن يبالغ في الاحتراز عن الرياء والسمعة.
وأما الأمور المقارنة فهو ألا يلتفت يمينًا ولا شمالًا، وأن يكون حاضر القلب عند القراءة، فاهما للأذكار، مطلعا على حكم الصلاة.
وأما الأمور المتراخية فهي ألا يشتغل بعد إقامة الصلاة باللغو واللهو واللعب، وأن يحترز كل الاحتراز عن الإتيان بعدها بشيء من المعاصي"، انتهى من "تفسير الرازي" (30/ 644).
وقال ابن القيم، رحمه الله:
"السكون في الصلاة. وهو الدوام الذي قال الله تعالى فيه: الذين هم على صلاتهم دائمون قال عبد الله بن المبارك عن ابن لهيعة: حدثني يزيد بن أبي حبيب: أن أبا الخير أخبره قال: سألنا عقبة بن عامر عن قوله تعالى: الذين هم على صلاتهم دائمون أهم الذين يصلون دائما؟ قال: لا. ولكنه إذا صلى لم يلتفت عن يمينه، ولا عن شماله ولا خلفه.
قلت: هما أمران. الدوام عليها. والمداومة عليها. فهذا الدوام. والمداومة في قوله تعالى: والذين هم على صلاتهم يحافظون
وفسر الدوام بسكون الأطراف والطمأنينة" انتهى، من "مدارج السالكين" (2/365).
2- وذهب بعضهم إلى أن ذلك من باب التوكيد.
قال "الإسكافي": "فقال: (إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون)، أي: إلا الذين يؤدُّون الصلاة، ويقيمونها، ويديمونها، ثم أكَّد ذلك في آخر هذه الآيات، كرًّا عليها، بقوله: (والذين هم على صلاتهم يحافظون)، ومحافظتهم عليها: مراعاتهم لأوقاتها، وقيامهم بحقوقها المفروضة قَبلها، والمفروضة عند افتتاحها، والمفروضة عند جملة حدودها إلى حين اختتامها، فهذا في وصف المصلين".
"درة التنزيل وغرة التأويل" (1/ 1299).
وذكر "الطاهر ابن عاشور" معنى التوكيد، وأن فيه زيادة معنى، بكون (الدوام) عدم الترك، و(المحافظة) العناية بها من أن يعتريها ما يخل بكمالها.
وقال: «أتبع وصف المصلين في الآية، هذه بوصف الذين هم على صلاتهم دائمون؛ أي مواظبون على صلاتهم، لا يتخلفون عن أدائها، ولا يتركونها.
والدوام على الشيء: عدم تركه، وذلك في كل عمل بحسب ما يعتبر دواما فيه"، انتهى.
"التحرير والتنوير" (29/171).
وقال: "وقوله: (والذين هم على صلاتهم يحافظون): ثناء عليهم بعنايتهم بالصلاة، من أن يعتريها شيء يخل بكمالها، لأن مادة المفاعلة هنا للمبالغة في الحفظ، مثل: عافاه الله، وقاتله الله، فالمحافظة راجعة إلى استكمال أركان الصلاة، وشروطها وأوقاتها.
وإيثار الفعل المضارع لإفادة تجدد ذلك الحفاظ وعدم التهاون به.
وبذلك تعلم أن هذه الجملة ليست مجرد تأكيد لجملة الذين هم على صلاتهم دائمون؛ بل فيها زيادة معنى، مع حصول الغرض من التأكيد، بإعادة ما يفيد عنايتهم بالصلاة في كلتا الجملتين"، انتهى.
"التحرير والتنوير" (29/ 174).
وذكر "أبو حفص النسفي" عدة فروقات بينها، فقال: "والذين هم على صلاتهم يحافظون: والمحافظة عليها: ترك تضييعها؛ كأنك تحفظها، وهي تحفظك.
وذكر في الأول: على صلاتهم دائمون:
فقيل: الدوام عليها: الاستكثار منها، والمحافظة عليها: ألا تضيع عن مواقيتها.
وقيل: الدوام عليها: أداؤها في أوقاتها، والمحافظة عليها: حفظ أركانها وواجباتها وسننها وآدابها.
وقيل: الدوام على التطوعات، والمحافظة على المكتوبات"، انتهى من "التيسير في التفسير" (15/ 17).
والله أعلم.
تعليق