الحمد لله.
وصف الله عز وجل بأنه المدبّر لا إشكال فيه، ولا خلاف، وقد دلت عليه النصوص، وذكره العلماء بلفظ المدبّر، فهو من أفعال الله مأخوذ من التدبير، قال الله تعالى: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ [يونس: 3] وقال تعالى:يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ [الرعد: 2] وقال تعالى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ [السجدة: 5].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "فإن الرب سبحانه هو المالك المدبّر المعطي المانع الضار النافع الخافض الرافع المعز المذل" انتهى من "مجموع الفتاوى" (1/ 92).
وقال الشيخ السعدي رحمه الله: "له ما في السماوات وما في الأرض أي: هو المالك وما سواه مملوك وهو الخالق الرازق المدبّر وغيره مخلوق" انتهى من "تفسير السعدي" (ص:110).
أما مسألة هل (المدبّر) من أسماء الله تعالى؟
فأولاً:
لابد من معرفة أنّ أسماء الله تعالى توقيفية لا مجال للعقل فيها، وعلى هذا فيجب الوقوف فيها على ما جاء به الكتاب والسنة، فلا يزاد فيها ولا ينقص، لأن العقل لا يمكنه إدراك ما يستحقه تعالى من الأسماء، فوجب الوقوف في ذلك على النص، لقوله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا وقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ، ولأن تسميته تعالى بما لم يُسَمِّ به نفسه، أو إنكار ما سمى به نفسه: جنايةٌ في حقه تعالى، فوجب سلوكُ الأدب في ذلك، والاقتصار على ما جاء به النص. "انظر: القواعد المثلى في صفات الله وأسمائه الحسنى، لابن عثيمين» (ص13).
قال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله: "أسماء الله تعالى كلها توقيفية، لا يسمى إلا بما سمى به نفسه في كتابه، أو أطلقه عليه رسوله صلى الله عليه وسلم، وكل فعل أطلقه الله تعالى على نفسه، فهو فيما أُطلق فيه مدح وكمال، ولكن ليس كلها وصف الله به نفسه مطلقا، ولا كلها يشتق منها أسماء" انتهى من «أعلام السنة المنشورة لاعتقاد الطائفة الناجية المنصورة" (ص:34).
ثانياً:
ورد في الصحيح أنّ لله تسعا وتسعين اسماً من أحصاها دخل الجنة، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا، مِائَةً إِلَّا وَاحِدًا، مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الجنة البخاري (2585).
وهذه الأسماء، أختلف فيها أهل العلم، فقد ورد تحديدها في حديث رواه الترمذي وغيره، فمنهم من ضعفه ومنهم من صححه، والأكثر على تضعيفه.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن لله تعالى تسعة وتسعين اسما مائة غير واحد من أحصاها دخل الجنة، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن... الحديث وعدّ تسعا وتسعين اسماً، الترمذي (3507).
قال الترمذي رحمه الله - عقب روايته للحديث: "هذا حديث غريب حدثنا به غير واحد عن صفوان بن صالح، ولا نعرفه إلا من حديث صفوان بن صالح: وهو ثقة عند أهل الحديث. وقد روي هذا الحديث من غير وجه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم. ولا نعلم في كبير شيء من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث. وقد روى آدم بن أبي إياس، هذا الحديث بإسناد غير هذا عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر فيه الأسماء. وليس له إسناد صحيح" انتهى.
وقد ضعف زيادة عد الأسماء في الحديث أيضا: الحافظ ابن حجر في " التلخيص الحبير " (4 / 172)، ونقل تضعيفه عن ابنِ حزمٍ والبيهقي وغيرِهما. وضعَّفه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في " مجموع الفتاوى " (22 / 482).
وقد صححه بعض الأئمة، منهم ابن حبان والحاكم، وحسنه النووي.
قال الشوكاني رحمه الله: " وقد صححه ابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال النووي في الأذكار: إنه حديث حسن" انتهى من "تحفة الذاكرين للشوكاني" (ص86).
والقول الراجح: أنّ الحديث الذي رواه الترمذي وغيره في تعيين الأسماء لا يثبت كما بينه كبار الأئمة.
قال الصنعاني رحمه الله: "اتفق الحفاظ من أئمة الحديث أن سردها إدراج من بعض الرواة" انتهى من "سبل السلام" (8/ 24).
ثالثاً:
اجتهد بعض أهل العلم في استخراج هذه الأسماء من نصوص الكتاب والسنة، فاتفقوا في عدد كبير منها، واختلفوا في بعضها، فمنهم من أثبت أسماء لم يثبتها الآخر، بناء على ما أداه إليه اجتهاده في الاستنباط، وهذا لا يُشكِل كثيراً، فإنّ أسماء الله تعالى ليست محصورة بتسعين وتسعين، ففي الحديث: "أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك...الحديث" أحمد (3712)2) وصححه الألباني في الصحيحة (199).
لذا فإنّ استخراج بعضهم للأسماء الحسنى لا يعني استيعابهم لها، بل يجتهد الآخر في إثبات ما لم يثبته غيره. وهذا من معاني الإحصاء الوارد في الحديث.
قال ابن بطال: "الإحصاء يقع بالقول ويقع بالعمل ...، وأما الإحصاء القولي فيحصل بجمعها وحفظها والسؤال بها" انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (13/ 378).
وقال ابن حجر: "فقد اعتنى جماعة بتتبعها من القرآن من غير تقييد بعدد، فروينا في كتاب المائتين لأبي عثمان الصابوني بسنده إلى محمد بن يحيى الذهلي أنه استخرج الأسماء من القرآن، وكذا أخرج أبو نعيم عن الطبراني عن احمد بن عمرو الخلال عن بن أبي عمرو حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين سألت أبا جعفر بن محمد الصادق عن الأسماء الحسنى، فقال: هي في القرآن، وروينا في فوائد تمام من طريق أبي الطاهر بن السرح عن حبان بن نافع عن سفيان بن عيينة الحديث يعني حديث: "إنّ لله تسعة وتسعين اسما" قال: فوعدنا سفيان أن يخرجها لنا من القرآن، فأبطأ، فأتينا أبا زيد، فأخرجها لنا، فعرضناها على سفيان، فنظر فيها أربع مرات وقال نعم هي هذه" انتهى من " فتح الباري" (11/217).
ولا إشكال مادام أن استنباطها من نص صحيح من الكتاب أو السنة، لأنّ هذا معنى كونها توقيفية.
ثالثاً:
سبق بيان القول الراجح بأن تعيين الأسماء في حديث إن لله تسعا تسعين اسما من إدراج الرواة.
وعلى هذا؛ فإنّ أقل ما يقال إنّ تعيين الأسماء اجتهاد من الرواة في استنباطها، ولذا حصل اختلاف عند الأئمة في تحديدها، فمنهم من ذكر أسماء لم يذكرها الآخر. وقد أثبت بعض الأئمة اسم (المدبّر) بأنه من أسماء الله الحسنى.
فقد ذكر ابن حجر رحمه الله في فتح الباري (11/215-219) قدرا من هذا الاختلاف في استنباط الأسماء الحسنى، وذكر فيها إثبات (المدبّر) عند بعض أهل العلم، كما ثبت في بعض روايات السنن التي ذكرت الأسماء كما أسلفنا.
قال ابن حجر رحمه الله: "وفي رواية موسى بن عقبة المذكورة آنفا ثمانية عشر اسما على الولاء وفيها أيضا الحنان المنان الجليل الكفيل المحيط القادر الرفيع الشاكر الأكرم الفاطر ...، الإله المدبّر بتشديد الموحدة" انتهى من "فتح الباري لابن حجر" (11/ 216).
وقد أثبته أيضا البيهقي في الأسماء والصفات، "بَابُ بَيَانِ أَنَّ لِلَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَسْمَاءً أُخْرَى" عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ لِلَّهِ تَعَالَى تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ)، فَذَكَرَهَا وَعَدَّ مِنْهَا:....، الْعَلَّامُ الْمَلِيكُ الْأَكْرَمُ الْمُدَبِّرُ الْقَدِيرُ الشَّاكِرُ...." البيهقي في الأسماء والصفات (10).
وكذا الحاكم في المستدرك في كتاب الإيمان باللفظ السابق، وعد منها (المدبّر).
وعليه:
فمن أثبت (المدبّر) اسما من أسماء الله تعالى تبعاً للأئمة الذين صححوا رواية العد، أو الذين أثبتوه بالاستنباط استنباطا: فلا حرج عليه؛ وإثبات الاسم المعين، من أسماء الله الحسنى: مما يدخله الاجتهاد، ويقع فيه الاختلاف بين أهل العلم، كما سبق ذكره.
والله أعلم
تعليق