الأربعاء 17 جمادى الآخرة 1446 - 18 ديسمبر 2024
العربية

ما هي ابتلاءات الأنبياء؟

477593

تاريخ النشر : 30-01-2024

المشاهدات : 7166

السؤال

أنا شاب متزوج، مسلم ملتزم، ولكن في الفترة الأخيرة تعرضت لابتلاءات شديدة، وتضييق في الرزق والأبناء، وأنا اصبر وأحتسب أجري على الله تعالى، ولكن أحياناً أضعف، وأحاول الاستماع لفيديوهات تعين على الصبر، ودائما ما تتردد عبارة أشد الناس ابتلاءاً هم الأنبياء، فالأمثل، والأمثل، ولا شك لدي في ذلك، ولكن نفسي تحدثني ويتبادر إلى ذهني سؤال، ـ وقد يكون لنقص في المعرفة لدي، أو من الشيطان ـ هو: أن من الأنبياء لم أسمع عن ابتلاءاتهم، مثل: سيدنا موسى وعيسى وداوود وسليمان عليهم السلام، ليس كبقية الأنبياء، مثل: سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أيوب، يوسف، يعقوب، عليهم جميعا افضل الصلوات وأتم التسليم. واستغفر الله إن كان في سؤالي تشكيكا في حكمة الله عز وجل، ولكن لضيق في نفسي، وبسبب قلة صبري أحيانا يتبادر لذهني هذا السؤال، وأقول ما الذي ابتلي به موسى أو عيسى أو داوود أو سليمان عليهم السلام؟

الجواب

الحمد لله.

أولًا:

عن فَاطِمَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: أَتَيْنَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَعُودُهُ فِي نِسَاءٍ فَإِذَا سِقَاءٌ مُعَلَّقٌ نَحْوَهُ يَقْطُرُ مَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ مَا يَجِدُ مِنْ حَرِّ الْحُمَّى، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَوْ دَعَوْتَ اللَّهَ فَشَفَاكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  إِنَّ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ بَلَاءً الْأَنْبِيَاءَ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ أخرجه أحمد(27079).

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

"(أشد الناس بلاءً الأنبياء) لأن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالنبوة، وابتلاهم بالدعوة إلى الله، وابتلاهم بقوم ينكرون ويصفونهم بصفات القدح والذم، كما قال تعالى: كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ [الذاريات:٥٢]، ولكن هذا الابتلاء هو في الواقع؛ لأن كل ما أصابهم من جرائها فهو رفعة في درجاتهم.

(ثم الأمثل فالأمثل) يعني: الأصلح، فالأصلح، كلما كان الإنسان أصلح، وكلما كان أقوى دعوة إلى الله، وكلما كان أشد تمسكاً في دين الله؛ كان له أعداء أكثر، قال الله تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ [الفرقان:٣١].

وعداوة المجرمين للأنبياء ليس لأشخاصهم، بل لما جاءوا به من الحق، وعلى هذا فيكون كل من تسمك بما جاءوا به من الحق ناله من العداوة من المجرمين مثلما ينال الأنبياء، أو أقل بحسب الحال.

والله عز وجل حكيم يبتلي بالنعم، ويبتلي بالنقم، فابتلاؤه بالنعم ليبلونا أنشكر أم نكفر، وبالنقم ليبلونا أنكفر أم نصبر، هذا هو معنى الحديث.

وهذا في الحقيقة تسلية للمؤمن الداعي إلى الله إذا ناله ما ناله من الناس، فإنما ذلك في سبيل الله، وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أدميت إصبعه قال:

هل أنت إلا إصبعٌ دَمِيتِ **   وفي سبيل الله ما لقيتِ

فأنت؛ اعلم أن كل ما أصابك من استهزاء أو سخرية من المجرمين بسبب ما قمت به من الدعوة إلى الله، أو التمسك بدين الله؛ فاعلم أن لك أجراً في ذلك؛ لأنه في سبيل الله" انتهى، من "لقاء الباب المفتوح" (94/13).

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، أَنَّهُ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيهِ وسَلم وَهُوَ مَوْعُوكٌ، عَلَيْهِ قَطِيفَةٌ، فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ، فَوَجَدَ حَرَارَتَهَا فَوْقَ الْقَطِيفَةِ، فَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ: مَا أَشَدَّ حُمَّاكَ يَا رَسُولَ اللهِ!!

قَالَ:  إِنَّا كَذَلِكَ، يَشْتَدُّ عَلَيْنَا الْبَلاَءُ، وَيُضَاعَفُ لَنَا الأَجْرُ.

فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟

قَالَ:  الأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ الصَّالِحُونَ، وَقَدْ كَانَ أَحَدُهُمْ يُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إِلاَّ الْعَبَاءَةَ يَجُوبُهَا فَيَلْبَسُهَا، وَيُبْتَلَى بِالْقُمَّلِ حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَلَأَحَدُهُمْ كَانَ أَشَدَّ فَرَحًا بِالْبَلاَءِ مِنْ أَحَدِكُمْ بِالْعَطَاءِ . رواه البخاري في الأدب المفرد (510)، وصححه الألباني.

وفي "مرعاة المفاتيح" (5/256): "أي هم أشد في الابتلاء، لأنهم يتلذذون بالبلاء كما يتلذذ غيرهم بالنعماء، ولأنهم لو لم يبتلوا لتوهم فيهم الألوهية وليتوهن على الأمة الصبر على البلية، ولأن من كان أشد بلاء كان أشد تضرعاً والتجاء إلى الله تعالى" انتهى.

وقال النووي: "قال العلماء: الحكمة في كون الأنبياء أشد بلاء، ثم الأمثل فالأمثل، أنهم مخصوصون بكمال الصبر وصحة الاحتساب، ويظهر صبرهم ورضاهم" انتهى، من "شرح النووي على مسلم" (16/129).

وقال ابن القيم في "بدائع الفوائد" (2/452): "فإنه سبحانه كما يحمي الأنبياء ويصونهم ويحفظهم ويتولاهم فيبتليهم بما شاء من أذى الكفار لهم:

1- ليستوجبوا كمال كرامته.

2- وليتسلى بهم من بعدهم من أممهم وخلفائهم إذا أوذوا من الناس فرأوا ما جرى على الرسل والأنبياء صبروا ورضوا وتأسوا بهم.

3- ولتمتلئ صاع الكفار، فيستوجبون ما أعد لهم من النكال العاجل، والعقوبة الآجلة، فيمحقهم بسبب بغيهم وعداوتهم فيعجل تطهير الأرض منهم.

فهذا من بعض حكمته تعالى في ابتلاء أنبيائه ورسله بإيذاء قومهم، وله الحكمة البالغة، والنعمة السابغة، لا إله غيره، ولا رب سواه " انتهى.

وانظر جواب السؤال رقم: (72265).

ثانيًا:

ينبغي أن يعلم أن الله يقص علينا من أخبار أنبياءه عليهم الصلاة والسلام ما يناسب الحكمة والعبرة التي يريد الله عز وجل تعليمنا إياها، ولم يقص الله علينا جميع تفاصيل حياة أنبيائه، فعدم علمنا بطبيعة البلاءات التي تعرض لها نبي بعينه، لا يلزم منه أنه لم تقع له البلاءات المناسبة لمقامه وجلال نبوته.

وبخصوص نبي الله موسى عليه السلام، فقد مر عليه السلام بأصناف من الأذى منذ مولده، وإلقائه في اليم، ثم تربيته في بيت عدو الله وعدوه فرعون، ثم هروبه من مصر خوفًا من فرعون وملئه بعد وكزه الرجل من بني إسرائيل، ثم صار أجيرًا عند الرجل الصالح لمدة عشر سنين، ثم عاد إلى فرعون يدعوه، وما لاقى أثناء ذلك من الخوف، ثم تهمة بني إسرائيل له بالبرص، ومعاناته معهم عندما عبدوا العجل، وعندما طلبوا منه أن يجعل لهم إلهًا، ولا شك في ثقل هذا على نبي كريم ظل يدعوا قومه إلى الإيمان بالله عقودًا من الزمان.

 واقرأ سورة القصص تجد تفاصيل هذه المعاناة التي مر بها موسى عليه السلام.

 ومما يبين ثقل ما مر به موسى عليه السلام، وشدة معاناته = ذكر نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لموسى عليه السلام عندما يمر به الأذى والشدة، فمن ذلك ما رواه البخاري(3150) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "لمَّا كانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، آثَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أُنَاسًا في القِسْمَةِ، فأعْطَى الأقْرَعَ بنَ حَابِسٍ مِئَةً مِنَ الإبِلِ، وأَعْطَى عُيَيْنَةَ مِثْلَ ذلكَ، وأَعْطَى أُنَاسًا مِن أَشْرَافِ العَرَبِ فَآثَرَهُمْ يَومَئذٍ في القِسْمَةِ، قالَ رَجُلٌ: واللَّهِ إنَّ هذِه القِسْمَةَ ما عُدِلَ فِيهَا، وما أُرِيدَ بهَا وجْهُ اللَّهِ، فَقُلتُ: واللَّهِ لَأُخْبِرَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأتَيْتُهُ، فأخْبَرْتُهُ، فَقالَ: فمَن يَعْدِلُ إذَا لَمْ يَعْدِلِ اللَّهُ ورَسولُهُ، رَحِمَ اللَّهُ مُوسَى؛ قدْ أُوذِيَ بأَكْثَرَ مِن هذا فَصَبَرَ .

وأما عيسى عليه السلام فقد ابتلاه الله بطعن اليهود في أمه الشريفة العفيفة، وأرادهما اليهود بسوء في صغره، فآواهما الله تبارك وتعالى ونجاهما، كما قال سبحانه: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ المؤمنون/50.

وصح عن بعض السلف كما في: "قصص الأنبياء" لابن كثير (2/830) أنه كان رقيق الحال، لا مال له ولا دنيا؛ فكان هذا من بعض ما ابتلي به. وانظر أيضًا في ذلك: "تاريخ دمشق"، لابن عساكر (47/420).

 وكان من هذه الابتلاءات سعي اليهود في صلبه وقتله، لولا أن شُبه لهم، وأنجاه الله سبحانه.

وبكل حال؛ فمن تدبر القرآن الكريم، وما صح من أخبار الأنبياء في سنة نبي الله الكريم، علم عظيم ما مروا به من الابتلاء في ذات الله، وما صبروا على أمره، ابتغاء وجهه.

على أنا قد نبهنا من قبل، في جواب سؤال مشابه، على أن البلاء في الحديث عام ، يشمل كل أنواع البلاء ، فيشمل الابتلاء بالسراء والضراء، ويشمل الابتلاء بالحروب والفتن والاضطرابات ، ويشمل الابتلاء بتولي المسؤوليات ، كما يشمل الابتلاء بكثرة الفرق والبدع والضلالات ، وكثرة الشهوات والفجور، وانتشار الفساد في الأرض، ونحو ذلك .

وليس البلاء مقصورا على المرض أو الفقر أو نحو ذلك ، قال تعالى: وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ الأنبياء/ 35 .

قال ابن كثير رحمه الله :" أَيْ: نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تَارَةً ، وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى، لِنَنْظُرَ مَنْ يَشْكُرُ وَمَنْ يَكْفُرُ، وَمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ يَقْنَطُ ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَة َ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَنَبْلُوكُمْ) ، يَقُولُ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ " .انتهى من " تفسير ابن كثير" (5/ 342) . 

انظر: جواب السؤال رقم: (224161)، وأيضا رقم: (204615).

نسأل الله أن يكشف عنك البلاء والضراء، ويبدلك نعمة، وفرحا، وسرورا، وقرة عين، وأن يجمع لك الأجر والعافية.

والله أعلم.


 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب