أولًا:
يحق لك أيتها السائلة الكريمة أن تفخري أعظم الفخر بانتسابك إلى دين الإسلام، ودخولك في أتباع النبي الخاتم، محمد عليه الصلاة والسلام!
فإنَّ "الله لم ينعم على أهل الأرض نعمةً أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم"، كما في " الإخنائية" لابن تيمية (ص 183).
ومن أعظم براهين إنعام الله تعالى على البشر برسالة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن أعظم ما يدعو إلى الفخر بالانتساب لدينه: أن الله قد أكملَ له ولأتباعه الدِّين، وأتمَّ عليهم النعمة؛ بأن جعل شريعته شاملة لمصالح العباد الدنيوية كلها، فبينت ما يصلح به معاشهم في الدنيا، ويسعدهم فيها، كما بينت ما ينجيهم في الآخرة، ويسعدهم فيها.
فإنَّ "الرسالة: ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعاده.
فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا باتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا باتباع الرسالة"، فكل ما في دين الإسلام من العقائد والشرائع، فيه "نفع وصلاح للعبد في دنياه وآخرته؛ وفي ضد ذلك: شقاوته ومضرته في دنياه وآخرته. ولولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد"، انتهى مختصرًا من "مجموع الفتاوي" لابن تيمية (19/ 99).
وقد علم الكافرون بفضيلة شمول الشريعة الإسلامية لكل ما يحتاجه العباد من المصالح، وأقروا بها، كما روى مسلم في صحيحه (262) والطيالسي في مسنده (2845) أن أحد المشركين قال لسلمان الفارسي رضي الله عنه: قد علمكم نبيكم - صلى الله عليه وسلم - كل شيء حتى علمكم كيف تأتون الخلاء!
فقال سلمان رضي الله عنه: (أجل، لقد نهانا أن نستقبل القبلة لغائط أو بول، أو أن نستنجي باليمين، أو أن نستنجي بأقل من ثلاثة أحجار، أو أن نستنجي برجيع أو بعظم).
وروى البخاري (4407) ومسلم (3017) عن طارق بن شهابٍ قال: جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب، فقال: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها، لو علينا نَزلَتْ، معشرَ اليهود، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، فقال عمر رضي الله عنه: (وأي آية)؟ قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ، وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي، وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فقال عمر: (إني لأعلم اليوم الذي نزلت فيه، والمكان الذي نزلت فيه، نزلَت على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفات في يوم جمعة).
والمقصود:
أن من محاسن الشريعة المحمدية: العناية التامة بكل ما يصلح شأن المعاش الدنيوي، إضافة إلى ما يسعده في المعاد الأخروي، ومن محاسنها كذلك: شمولها لكل صغير وكبير، وسواء في ذلك ما يصلح عليه الإنسان في نفسه وعقيدته وعبادته وطهارته ومأكله وملبسه وكافة أموره، وما تصلح عليه علاقته بغيره من الناس.
فكل ما يصلح عليه معاشه ومعاده: قد بينته الشريعة، حتى لقد بيّنت ما يستقيم به شأن العباد، في استعمال ما سخره الله له من الحيوان والجماد!
ومن هاهنا: أحل الله البيعَ، وحرمَ الربا والظلم والغرر، وأحل الزواج وحرم الزنا، وأوجب بر الوالدين وصلة الرحم، وشرع حق الجار، وبيَّن حق المرأة واليتيم والفقير والمسكين، وأمر بنصرة المظلوم والضعيف والمحتاج.
ومن هاهنا: بيَّن صلى الله عليه وسلم ما يجب من الإحسان إلى الحيوان عند الذبح، ونهى أن يُفجع حيوان في ولده، فلا يفرق بينه وبين صغيره إلا بضوابط، وبيَّن ما يحظر من قطع الشجر، وما يجوز استعماله من الماء وما يُمنع، إلى آخر هذه الأحكام التفصيلية التي لم تدع شاردة ولا واردة في معاش الإنسان وتصرفاته في الدنيا، مما يحتاج العباد إلى معرفة حدود الله، وحكمه فيها: إلا وبينت ذلك للعباد البيان الشافي.
وهكذا كل شأن العباد، في الاعتقاد والعبادة والعمل والمطعم والمأكل والملبس وجميع شأنهم، وجُعل كل ذلك سببا للثواب والعقاب، فالخلق لا يستقيم أمر معاشهم ومعاملاتهم وتصرفاتهم (في الدنيا)؛ إلا إذا (علموا) أن هناك حسابًا وجزاءً ينتظرهم في الآخرة، ثم (عملوا) بمقتضى هذا العلم، فعبدوا الله تعالى ووحدوه، وأطاعوا رسوله صلى الله عليه وسلم واتبعوه، إذ كل ما جاء به الرسول فيه صلاح للدنيا والآخرة، وإقامة للعدل والقسط بين الناس في المعاش الدنيوي، ثم الجزاء لهم في الآخرة بالعدل والرحمة.
ولتعلمي، أيتها السائلة الكريمة: أن من أعظم أصول العلم النافع للعبد في دنياه، وأخراه، ومن أجل أسباب نجاته: أن يعلم، بل يوقن يقينا لا يتزحزح:
"أن السعادة والهدى في متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم. وأن الضلال والشقاء في مخالفته.
وأن كل خير في الوجود، إما عام وإما خاص: فمنشؤه من جهة الرسول.
وأن كل شر في العالم، مختصٍّ بالعبد: فسببه مخالفة الرسول، أو الجهل بما جاء به.
وأن سعادة العباد، في معاشهم ومعادهم: باتباع الرسالة.
والرسالة ضرورية للعباد، لا بد لهم منها. وحاجتهم إليها فوق حاجتهم إلى كل شيء.
والرسالة: رُوح العالم، ونوره، وحياته؛ فأي صلاح للعالم إذا عدم الروح والحياة والنور؟
والدنيا مظلمة ملعونة، إلا ما طلعت عليه شمس الرسالة.
وكذلك العبد، ما لم تشرق في قلبه شمس الرسالة، ويناله من حياتها وروحها: فهو في ظلمة؛ وهو من الأموات" انتهى، من "مجموع الفتاوى" (19/ 93).
فمن دواعي الفخر والعزة – أيتها السائلة الكريمة - أن ينتسب الإنسان إلى دين الإسلام، إذ يجد في كل خطوة يخطوها وكل عمل يعمله: عناية الله تعالى بما يصلحه في نفسه، ويصلح له دنياه، ويثيبه فيصلح له آخرته، فبذلك يستقيم معاشه ومعاده، فلأجل كل ذلك كانت الشريعة المحمدية سببا في صلاح الدنيا وإصلاح الأرض، وسعادة الآخرة وعمارتها.
"فإن الله تعالى هدانا بنبيِّه محمد صلى الله عليه وسلم، وأخرجنا به من الظلمات إلى النور، وآتانا ببركة رسالته ويُمن سفارته خيرَ الدنيا والآخرة"، "الصارم المسلول" (1/ 2).
ومع هذا (الشمول) في الشريعة المحمدية، فإن أحكامها كذلك قائمة على العدل والقسط، مع الإحسان والرحمة، ورفع الحرج والأغلال والمشقة، التي كانت في الأمم السابقة، جزاء ظلمهم وجهلهم.
كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
وقال تعالى: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
وقال تعالى: لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ.
وقال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ.
والمقصود: أنه ما من شيء من شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا وهو مصلحة في الدنيا والآخرة، وما من شيء شرعه الله تعالى، إلا وهو وفاق ميزان العدل والقسط، وفيه مع ذلك الرحمة بالعباد والإحسان إليهم، وكل ذلك من محاسن الشريعة ومميزاتها، فإنَّ "العدل جماع الدين"، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية في "الاستقامة" (1/ 434).
وقال ابن حزم رحمه الله: "إنَّ كلَّ أمرٍ من الله تعالى لنا؛ فهو يُسرٌ، وهو رفع الحرج، وهو التخفيف، ولا يسر، ولا تخفيف، ولا رفع حرج؛ أعظم من شيء أدى إلى الجنة، ونجَّى من جهنم، وسواء كان حظرًا أو إباحة"، انتهى من "الإحكام" (2/ 41).
"والله سبحانه: أرسل رسلَه بالبينات، وأنزل معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط، فيحتاج المؤمن إلى معرفة العدل، وهو الصراط المستقيم، وإلى العمل به؛ وإلا وقع إما في جهلٍ، وإما في ظلم"، "قاعدة في المحبة" لابن تيمية، ضمن "جامع الرسائل" (2/ 319).
فبذلك تعلمين إن شاء الله: أن عناية الله تعالى في شِرعة النبي الخاتم، بكل صغير وكبير؛ سببه احتياج الناس إلى هذا الشمول والتفصيل، وقيام أمرهم كله به، وصلاح حالهم عليه. وأنه من محاسن هذا الدين ومميزاته، وأن كل ما شرعه الله: هو من العدل والإحسان والرحمة، وحتى يبين الله تعالى ما ينصلح به المعاش والمعاد، وليقوم الناس بالقسط، فالحمد لله رب العالمين.
ثانيًا:
لم يقض الله تعالى بالنار لكل من ارتكب شيئًا من صغائر الذنوب.
وإنما أعدَّ الله تعالى النار للكافرين والمنافقين والمعاندين لشريعته، والمستكبرين عن عبادته، وكل هؤلاء قد خالفوا في أصل الدين، وهو التوحيد، وهو أعظم ما أمر الله به.
وكذلك: العصاة من الموحِّدين الذين قارفوا (كبائر الإثم) و(الفواحش)، من غير توبة صادقة مقبولة منها، إلى أن تتوفاهم الملائكة، فهؤلاء أيضًا: ممن جاء الوعيد بأن يدخلوا النار، إلا أن يغفر الله لهم فضلا منه ورحمة، ولحكمة تقتضي ذلك في بعضهم.
إلا أن هؤلاء العصاة من الموحدين، الذين اقترفوا الكبائر من غير توبة مقبولة، إذا دخلوا النار بسبب ذنوبهم؛ فقد قضى الله تعالى أن يخرجهم منها، ولو بعد طول زمان، ثم يدخلهم الجنة منعَّمين خالدين فيها أبدًا، ويراجع للفائدة جواب السؤال: (163383)، و(373662).
فالله تعالى إنما أعدَّ النار لمن يستحقها؛ لأن ذلك هو مقتضى صفات كماله تعالى، فقضاء الله تعالى بالثواب والعقاب في الآخرة؛ هو ما تقتضيه صفات العدل والحكمة والرحمة وغيرها من صفات الكمال، وكذلك هو مقتضى كونه تعالى هو مالك الملك، الذي له ما في السماوات وما في الأرض وما فيهن وما بينهن، فحقُّه تعالى أن يصرف ملكه ويقضي فيه بما يشاء ويختار، ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، سبحانه، ثم كل أفعاله تعالى وما يقضيه في الدنيا والآخرة: موافِقة للحكمة والعدل، والرحمة والإحسان.
ثالثًا:
الظاهر أن المراد بـ(الناس العاديين) أو (عموم الناس) في لفظ السؤال، هو من ارتكب شيئا من صغائر الذنوب، وليس الكبائر، وذلك بأنَّ السؤال قد جعل (الناس العاديين) في مقابل (مرتكبي الكبائر كالقتلة).
فإن كان السؤال عن الموحدين المؤمنين الذين لم يرتكبوا شيئًا من كبائر الإثم، وإنما اقترفوا الصغائر حسْب؛ فليُعلَم أن الأصلَ في الصغائر: أن يغفرها الله تعالى، إذا اجتنب صاحبها الكبائرَ كلَّها، وأقام الفرائض كلها (حقَّ الإقامة)، لكن بشرط ألا تقترن هذه الصغائر بشيء يعظِّم إثمها، (كالاستهانة بها، أو الإصرار عليها).
وقد استدل أهل العلم على هذا المعنى بالقرآن والسنة الصحيحة، كما في قوله تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى * الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ.
قال الشيخ السعدي: "الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثْمِ وَالْفَوَاحِشَ أي: يفعلون ما أمرهم الله به من الواجبات، التي يكون تركها من كبائر الذنوب، ويتركون المحرمات الكبار، كالزنا، وشرب الخمر، وأكل الربا، والقتل، ونحو ذلك من الذنوب العظيمة، إِلا اللَّمَمَ وهي الذنوب الصغار، التي لا يصر صاحبها عليها، أو التي يلم بها العبد المرةَ بعد المرة، على وجه الندرة والقلة، فهذه ليس مجرد الإقدام عليها مخرجًا للعبد من أن يكون من المحسنين، فإن هذه [يعني: اللمم الصغائر] مع الإتيان بالواجبات وترك المحرمات: تدخل تحت مغفرة الله التي وسعت كل شيء، ولهذا قال: إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ فلولا مغفرته لهلكت البلاد والعباد، ولولا عفوه وحلمه لسقطت السماء على الأرض، ولما ترك على ظهرها من دابة.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان، مكفرات لما بينهن، ما اجتنبت الكبائر)"، انتهى من "تفسيره" (ص 821).
ومن أظهر الأدلة على ذلك وأقواها، قول الله تعالى: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا.
قال السعدي أيضًا رحمه الله:
"وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين، وعدَهم أنهم إذا اجتنبوا كبائر المنهيات؛ غفر لهم جميع الذنوب والسيئات، وأدخلهم مدخلًا كريمًا كثير الخير، وهو الجنة المشتملة على ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر.
ويدخل في اجتناب الكبائر: فعلُ الفرائض التي يكون تاركها مرتكبًا كبيرةً، كالصلوات الخمس، والجمعة، وصوم رمضان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان إلى رمضان؛ مكفِّرات لما بينهما، ما اجتنبت الكبائر).
وأحسن ما حُدَّت به الكبائر؛ أن الكبيرة: ما فيه حدٌّ في الدنيا، أو وعيدٌ في الآخرة، أو نفيُ إيمانٍ، أو ترتيبُ لعنةٍ أو غضبٍ عليه"، انتهى من "التفسير" (ص176).
وقد سبقه إلى ذلك غيرُه من أهل العلم:
قال ابن تيمية: " يقال: اللمم؛ أن يلمَّ بالذنب الصغير مرةً من غير إصرار، لأن من أصر على الصغيرة صارت كبيرة، كما في الترمذي: (لا صغيرة مع إصرار، ولا كبيرة مع استغفار)، فقد جاء الكتاب والسنة بتكفير الصغائر لمن اجتنب الكبائر، وهذا لا ريب فيه"، انتهى من "المستدرك على مجموع الفتاوي" (3/ 95) ويراجع سائر كلامه فإنه شرح طيب.
وقال ابن القيم رحمه الله: "تكفير الصغائر يقع بشيئين: أحدهما: الحسنات الماحية، والثانى: اجتناب الكبائر. وقد نص عليها سبحانه وتعالى في كتابه فقال تعالى: وَأَقِمْ الصَّلاةَ طَرَفِى النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِن الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ، وقال تعالى: إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنهُونَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ"، انتهى من "طريق الهجرتين" (ص 380).
وينظر للفائدة: "تفسير ابن عطية" (3/ 213)، و"جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 426).
كما ينظر جواب السؤالين: (373662)، و(205039).
وعدَّ شيخ الإسلام ابن تيمية عشرة أسباب لرفع العقوبة عن العبد، فبها يزول أثر المعصية، فلتراجع في إجابة السؤال (13693).
والمقصود من ذلك كله:
أن من لم يرتكب إلا الصغيرة، ولم يكن متهاونًا بها ولا مصرًّا عليها؛ وحافظ مع ذلك على الفرائض وأقامها حق الإقامة؛ فإن الله يكفّر عنه هذه الصغائر، وإن لم يتب منها توبة مخصوصة.
لكن إن أصرَّ على الصغيرة، أو تهاون بها، كانت كبيرةً، كما ذكر أكثر علماء الأمة، مستشهدين بقول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: (لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار)، وصحح الأثر الشيخ محمد عمرو عبد اللطيف رحمه الله، في "تبييض الصحيفة" (الحديث التاسع والأربعون).
وقال الإمام النووي رحمه الله في "شرح مسلم" (2/ 86): "قال العلماء رحمهم الله: والإصرار على الصغيرة يجعلها كبيرة"، انتهى.
رابعًا:
إذا استحقَّ العبد المسلمُ الموحدُ الوعيدَ بالنار، بسبب ذنوبه؛ فإن الله عز وجل لا يقضي إلا بالعدل، ولا يفعل تعالى إلا ما فيه حكمة، وهو ما يوافق كمال صفاته، وتفرده بالملك سبحانه وتعالى، كما سبق.
وأما الأمور المقترحة في السؤال فلا تصلح لتكون عقوبةً للمؤمن الموحد الذي استحق النار بسبب كبيرةٍ ارتكبها، أو صغيرة أصرَّ عليها؛ فكلها أمور يظهر فيها مناقضة العدل الذي قضاه الله، فهي ظلمٌ يُنزَّه الله تعالى أن يقضي به.
فإن مع هذا العبد الموحد العاصي، من التوحيد والحسنات والأعمال الصالحة ما يستحق عليه الثواب والنعيم بوعد الله تعالى للطائع الموحد، كما أن معه من الذنوب ما يستحق العقوبة عليه، فلا شكَّ أن من الظلم أن يكون العبد من أهل التوحيد، ويكون معه كذلك من أنواع العبادة والصبر على الطاعة والمجاهدة ما قسمه الله تعالى له، قليلا كان أو كثيرا، كصلوات وصيام رمضانات وحج، وزكوات، وغير ذلك أو بعض ذلك؛ ثم يكون جزاؤه (الفناء)، فتصير أعماله الصالحة هباء منثورا كأن لم تكن.
والعدل والرحمة والإحسان هو الذي قضاه الله تعالى: أن يطهَّر الموحد العاصي من أثر معصيته، ويُطيَّب، ثم يدخل الجنة طيَّبًا نقيًّا، فإن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، كما في قول خزنة الجنة يوم القيامة لأهل الجنة: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ.
وهذا التطهير يحصل:
"إما بتوبة مقبولة، وإما بحسنات ماحية، وإما بمصائب مكفرة، وإما بشفاعة شفيع مطاع، وإما بفضل الله ورحمته ومغفرته، فإنه لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ.
وما يحصل للمؤمن في الدنيا، والبرزخ، والقيامة، من الألم، التي هي عذاب؛ فإن ذلك يكفِّر الله به خطاياه، كما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا أذى حتى الشوكة يشاكها؛ إلا كفَّر الله بها من خطاياه) ... فإن الجنة طيبة لا يدخلها إلا طيب، كما قال تعالى: طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ، وفي الحديث الصحيح أنهم إذا عبروا على الصراط؛ وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض فإذا: (هُذِّبوا ونُقُّوا؛ أذِن لهم في دخول الجنة)"، انتهى مختصرًا من "مجموع الفتاوي" لابن تيمية (24/ 376).
بل وعد الله تعالى أن يجزي الحسنة بالإحسان، كما يجزي الذين أساءوا بما عملوا، في آيات كثيرة، وقال تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ.
وقال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ.
بل أخبر تعالى أنه يضاعف الحسنة، رحمة منه وفضلًا، كما قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا.
وأخبر عز وجل أنه يجزي المسيء بما عمل، ويجزي المحسن بالإحسان والزيادة، كما قال تعالى: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى.
وقال تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ.
والمقصود: أن ما يقترحه السؤال من عقوبة (الحرمان من الجنة) لعصاة الموحدين، إن استحقوا النار: فيه إهدار لتوحيدهم وعملهم الصالح، وهو ظلم ينزه الله عن فعله، فإنه تعالى يضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلَم نفس شيئا، ويحاسب العبيد على مثقال حبة الخردل من الخير أو الشر!
وأما الذي قضاه الله تعالى: فأن يعذب أصحاب الكبائر مدة في النار، ثم يخرجهم منها وقد نُقُّوا وهُذِّبوا وطُيِّبوا، فيدخلهم الجنة لينعَّموا فيها إلى الأبد، بلا موت ولا حزن ولا أذى؛ وهذا فيه الرحمة والمصلحة لهم، مع العدل والحكمة والفضل والإحسان؛ فالحمد لله رب العالمين!
وأما مصائب الدنيا، كالسجن ونحوه: فلا تصلح جزاءً كذلك؛ فهذا شيء يتشارك فيه الطائع والعاصي في الدنيا، فقد قضى الله تعالى أن الدنيا ليست دار الجزاء، وإنما خلقها الله تعالى ليمتحن الناس ليوم الجزاء، والذي يصيب المؤمن من مصائبها وآلامها؛ فإنما هو كفارة لخطاياه، إن صبر واتقى، كما سبق شرحه، والكلام إنما هو فيمن بقيت له سيئات بعد كل هذه المكفِّرات، فاستحق النار.
وقد اختار الله تعالى، وهو المتفرد بالملك، أن يكون السجن لعصاة الموحدين في الآخرة دار الجزاء لا في الدنيا، وأن يكون السجن في النار إلى أجل يعلمه الله، إلى أن يطيَّبوا ويُنقُّوا كما سبق شرحه.
ثم إن الملك في الأمر كله؛ إنما هو إلى الله، والحكم فيه كله: إنما هو إلى الله. قال تعالى: (وَلِلَّهِ غَيۡبُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَإِلَيۡهِ يُرۡجَعُ ٱلۡأَمۡرُ كُلُّهُۥ فَٱعۡبُدۡهُ وَتَوَكَّلۡ عَلَيۡهِۚ وَمَا رَبُّكَ بِغَٰفِلٍ عَمَّا تَعۡمَلُونَ).
وقال سبحانه: (إِنَّ ٱللَّهَ يَحۡكُمُ مَا يُرِيدُ).
ولذلك كله، ولثبوت هذا الأصل في نفوس العاملين بأمر الله، الفاهمين عن الله؛ كَانَ معاذ بن جبل، رضي الله عنه: لَا يَجْلِسُ مَجْلِسًا لِلذِّكْرِ، حِينَ يَجْلِسُ، إِلَّا قَالَ: "اللَّهُ حَكَمٌ قِسْطٌ هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ ... " رواه أبو داود (4611) .
خامسًا:
السائلة الكريمة:
إنَّ الذنب الذي يبدو صغيرا في نظر بعض الناس، قد يبدو في نظر آخرين كبيرًا، ولو ترك الناس وأهواءهم وأغراضهم، لما صلحت لهم دنيا، ولا استقام لهم دين، ولتلعَّبت بهم الشياطين، ولفسدت السماوات والأرض ومن فيهن، كما قال رب العالمين تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ.
ولذلك جاءت الشريعة منزلة من ربك بالحق، وهو الذي يعلم من خلق، وهو اللطيف الخبير، حتى ينتظم شأن الناس على قانون واحد، وهو المتناسب مع فطرتهم، القائم على حفظ جميع حقوقهم، المصلح لدنياهم وآخرتهم، مع العدل والرحمة، كما سبق شرحه.
قال الشاطبي في "الموافقات" (2/ 289): "المقصد الشرعي من وضع الشريعة: إخراج المكلَّف عن داعية هواه؛ حتى يكون عبدًا لله اختيارًا، كما هو عبدٌ لله اضطرارًا"، انتهى.
ومع ذلك؛ فكلُّ ذنب صغير في حكم الشرع، يتهاون العبد به، أو يصرُّ عليه؛ يصير كبيرًا بتهاونه وإصراره، ويخرج صاحبه من صفة المتقين، الذين أعدَّ الله تعالى الجنة لهم، فإن المتقين لا يصرون على ما فعلوا؛ وهم يعلمون.
كما قال تعالى: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ، ثم ذكر تعالى في صفتهم: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ.
والإصرار على الذنب معناه: العزم وعقد القلب على الاستمرار فيه، فلا تقطعه توبة ولا ندم، وأما الذي يتوب ويندم، ثم يرجع، فليس هو مصرًّا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "الإصرار هو العزم على العود، ومن أتى صغيرة وتاب منها ثم عاد إليها، لم يكن قد أتى كبيرة"، انتهى من "مجموع الفتاوي" (22/ 62).
لكن المقصود هنا: أنه ليس لأحد من الناس أن يحكم على شيء من الذنوب أنه من الصغائر، أو من الكبائر؛ بمجرد الرأي، أو الشعور، أو الذوق، فإن هذه الأحكام مرجعها إلى الشرع، وإلى الله الذي لا تخفى عليه خافية.
وإلا؛ فقد كان كفار قريش، وهم من هم في الكفر بالله، والشرك به، والعتو عليه، وقتل النفس التي حرم الله، وقتل الموؤدة، وهي لتوها خرجت من بطن أمها، وأكل الربا ... = كل ذلك يفعلونه، لا يبالون، ولا يتحرجون، ولا يتحوبون؛ ثم: (كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْعُمْرَةَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ أَفْجَرِ الْفُجُورِ فِي الْأَرْضِ)!! [رواه البخاري (1564)].
العمرة، في أشهر الحج: أفجر الفجور؟ بأي برهان؟ بأي سلطان؟ بأي مفسدة في دين أو دينا؟ لا شيء؛ إلا احتكام الأهواء.
أفليس ذلك كله عجبا من العجب؟! أوليس ذلك مثالا صارخا على أن البشر، كل البشر، لا يصلحون أن يرد إليهم الأمر في تقدير ذلك الباب كله، ولا الحكم عليه؟!!
سادسًا:
دين الإسلام هو الحق، لأنه يتفرد - من بين الأديان والأفكار - بإجابات موافقة للعقل والفطرة على الأسئلة الكبرى التي تشغل الإنسان، مع برهان قطعي على أنها إجابات من قبل الخالق سبحانه وتعالى، وهو العليم الحكيم الخبير، عز وجل.
والمقصود هو أسئلة النشأة والوجود والمصير، فالقرآن – المعجز – يخبر الإنسان بكل ذلك ويبرهن عليه، إضافة إلى كمال التشريع ووفائه بكل صغير وكبير مما يحتاجه الإنسان لصلاح دنياه وإقامتها، وسعادة آخرته وعمارتها.
وينظر إجابة السؤالين: (289580)، و(175339).
والله جل جلاله: قد أذن لكل إنسان أن يختار ما يشاء من بين الكفر والإيمان، والرشد والغي، وإنما يبين الله تعالى حدود الإيمان والكفر، وعاقبة كلٍّ منهما في الدنيا والآخرة، ثم: من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، بإذن الله تعالى، فإنه لا يقع شيء في الكون إلا بإذنه تعالى أن يقع.
كما قال تعالى: لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ.
وقال تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا * أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا.
فأذن الله تعالى لكل إنسان أن يختار، وبيَّن عاقبة كل اختيار، والحمد لله رب العالمين. وقد اختار أكثرُ الناس الغيَّ لا الرشد، والكفرَ لا الإيمان، بعد أن تبيَّن لهم!
والحاصل مما سبق:
1- أن من مميزات ومحاسن الشريعة المحمدية: العناية بكل صغير وكبير من أمور الدنيا والآخرة؛ وقد علم بذلك الكافرون المخالفون، وحسدوا المؤمنين عليه، فهذا مما يدعو المسلم إلى الفخر بدينه والاعتزاز به، والتمسك به.
2- أن من يستحق النار من العبيد، فإنما يستحقها بعمله، وإنما يستحقها بعد أن اختار الغي دون الرشد، واستحب العمى على الهدى، وذلك بعد بيّن الله تعالى لهم ما يتقون، حتى إن من حقولهم يوم القيامة أن يشهدوا على أنفسهم بذلك، ويعترفوا، كما قال تعالى: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ * فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ.
3- ليس لأحد أن يحكم على ذنب ما أنه من الصغائر أو الكبائر، بل هذا حق لله تعالى وحده، ولا يكون ذلك إلا وفق علمه وحكمته تعالى.
4- من دخل النار من الموحدين؛ فإنما يدخلها بسبب كبيرة لم تُكفَّر، أو ما يلتحق بالكبيرة من الصغائر التي يصر عليها، أو يتهاون بها. ثم يخرجهم الله تعالى من النار ولو بعد زمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثم يقول الله تعالى: أخرجوا من النار من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان ...) الحديث، رواه البخاري (22) ومسلم (184).
وينظر جواب السؤال: (215431).
5- أن في دخول عصاة الموحدين النار، تطهيرًا لهم من أثر ذنوبهم الكبائر، التي لم تكفَّر بتوبة مقبولة، ولا بحسنات ماحية، ولا بمصائب مكفرة، ولا بشفاعة شفيعٍ مطاع، فإنَّ الجنة طيبة لا يدخلها إلا الطيبون.
وإن في عذابهم إلى حين، ثم دخلوهم الجنة منعمين خالدين فيها أبدًا: مصلحةً لهم، وعدم إهدار لحسناتهم التي اكتسبوها، وفي ذلك عدل الله ورحمته وحكمته، سبحانه.
6- قد قضى الله تعالى ألا يؤمن جميع أهل الأرض، فهذه مشيئته تعالى، ولو شاء أن يؤمنوا جميعا لآمنوا، غير أن الله تعالى أذن لكل إنسان أن يختار في دار الدنيا، وهي دار الامتحان، ثم يُرجَع الناس إلى الله ليحاسبهم على الصغير والكبير، والقليل والكثير، بعدله وحكمته، ورحمته وفضله.
وينظر جواب السؤال (520749)
والله أعلم.