الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

هل صح تفسير الاستواء على العرش بالجلوس؟

501116

تاريخ النشر : 04-06-2024

المشاهدات : 3226

السؤال

ما رأيك في تفسير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في كتابه "الأسماء والصفات": "بأن الله سبحانه وتعالى جاءهم، وجلس على كرسيه، أشرقت الأرض كلها بأنواره"؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

الكلام المنقول هنا ليس كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ولكنه نقله عن أبي عبد الله الحسن بن حامد بن علي البغدادي، المتوفى سنة (403 هـ) وهو إمام الحنابلة في زمانه.

قال شيخ الإسلام: "قال ابن حامد: فإذا تقرر هذا الأصل في نزول ذاته، من غير صفة ولا حد؛ فإنا نقول...

وقد أبى أصلَ هذه المسألة أهلُ الاعتزال...

وساق بعض الأحاديث المأثورة في ذلك.

قال: فصل: ومما يجب التصديق به والرضا: مجيئه إلى الحشر يوم القيامة، بمثابة نزوله إلى سمائه، وذلك بقوله: وجاء ربك والملك صفا صفا، وقال تعالى: وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء .

قال: وهذا دليل على أنه إذا جاءهم، وجلس على كرسيه: أشرقت الأرضُ كلُّها بأنواره" انتهى من "مجموع فتاوى ابن تيمية" (6/164- 166).

وليس لشيخ الإسلام كتاب اسمه "الأسماء والصفات"، وإنما انتزعه بعض المحققين من مجموع الفتاوى وأخرجه مستقلا.

والمقصود أن هذه الجملة من كلام ابن حامد، نقلها شيخ الإسلام عنه.

ولم نقف على كلام لشيخ الإسلام يفسر فيه الاستواء بالجلوس، لكنه يحكي ما ورد من ذلك في السنة، ويذكر كلام غيره من أهل العلم.

ثانيا:

قد وردت أحاديث في جلوس الرب تبارك وتعالى على كرسيه، في أسانيدها كلام.

منها: ما أخرجه الطبراني في معجمه الكبير (1364) عَنْ ثَعْلَبَةَ بن الْحَكَمِ ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) :يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْعُلَمَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، إِذَا قَعَدَ عَلَى كُرْسِيِّهِ لِقَضَاءِ عِبَادِهِ: إِنِّي ‌لَمْ ‌أَجْعَلْ ‌عِلْمِي وَحِكْمَتِي فِيكُمْ، إِلَّا وَأَنَا أُرِيدُ أَنْ ‌أَغْفِرَ ‌لَكُمْ عَلَى مَا كَانَ مِنْكُمْ، وَلَا أُبَالِي).

وجوّد ابنُ كثير رحمه الله إسناده. قال في تفسيره (5/ 272): " وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ أبو القاسم الطبراني في ذلك حيث قال ... ".

فذكر الحديث، ثم قال: "إسناده جيد" انتهى.

وقال السيوطي في "اللالئ المصنوعة" (1/201): " لَهُ طَرِيق لَا بَأْس بِهِ". وساق الحديث.

غير أن الحديث، وإن جوَّد الحافظ ابن كثير إسناده، في إسناده العلاء بن مسلمة: ضعيف جدا في الحديث، حتى اتهم بالوضع.

قال ابن المحب الصامت، رحمه الله: " والعلاء هذا أحد الضعفاء والمتروكين تكلم فيه ابن حبان وابن طاهر". انتهى، من "صفات رب العالمين" (1/446).

وقد علق العلامة عبد الرحمن بن يحيي المعلمي، رحمه الله، على قول السيوطي المذكور: " له طريق لا بأس به" = فقال:

" كذا قال السيوطي (1/114)، مع أن في سنده العلاء بن مسلمة: (كان رجال سوء لا يبالي ما روى ولا على ما أقدم، لا يحل لمن عرفه أن يروي عنه. يروي المقلوبات والموضوعات عن الثقات، لا يحل الاحتجاج به. كان يضع الحديث). هذا جميع ما في ترجمته في التهذيب من كلامهم فيه، فهل هذا توثيق؟!". انتهى، من تعليقه على "الفوائد المجموعة" للشوكاني (292).

وذكره الشيخ الألباني، رحمه الله في "السلسلة الضعيفة"، رقم (867)، وقال: "موضوع بهذا التمام". وذكر أن المتهم بوضعه هو العلاء، المذكور. ثم ذكر من قوى إسناده، كالحافظ ابن كثير وغيره، وتعقبه.

ثالثا:

الثابت في القرآن الكريم: أن الله استوى على العرش، وقد فسر التابعون الاستواء بالعلو والارتفاع والقعود، والجلوس، وروى الأئمة الآثار في الجلوس، وأقروا معناها دون إنكار.

قال الذهبي رحمه الله في "كتاب العرش" (2/154): " وأخرجه أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب "السنة والرد على الجهمية" له، عن أبيه، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق السبيعي، عن عبد الله ابن خليفة، عن عمر رضي الله عنه، ولفظه "إذا جلس الرب على الكرسي، سُمع له أطيط كأطيط الرحل الجديد".

ورواه أيضا عن أبيه، حدثنا وكيع بحديث إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عبد الله بن خليفة، عن عمر: "إذا جلس الرب على الكرسي".

فاقشعر رجل - سماه أبي - عند وكيع، فغضب وكيع، وقال: أدركنا الأعمش وسفيان يحدثون بهذه الأحاديث ولا ينكرونها.

قلت: وهذا الحديث صحيح عند جماعة من المحدثين، أخرجه الحافظ ضياء الدين المقدسي في صحيحه، وهو من شرط ابن حبان، فلا أدري أخرجه أم لا؟ فإن عنده أن العدل الحافظ إذا حدث عن رجل لم يُعرف بجرح، فإن ذلك إسناد صحيح.

فإذا كان هؤلاء الأئمة: أبو إسحاق السبيعي، والثوري، والأعمش، وإسرائيل، وعبد الرحمن بن مهدي، وأبو أحمد الزبيري، ووكيع، وأحمد بن حنبل، وغيرهم ممن يطولُ ذكرهم وعددهم، الذين هم سُرُج الهدى ومصابيح الدجى، قد تلقوا هذا الحديث بالقبول، وحدثوا به، ولم ينكروه، ولم يطعنوا في إسناده، فمن نحن حتى ننكره ونتحذلق عليهم؟

بل نؤمن به، ونكل علمه إلى الله عز وجل.

قال الإمام أحمد: "لا نزيل عن ربنا صفةً من صفاته لشناعة شنِّعت، وإن نَبَت عن الأسماع".

فانظر إلى وكيع بن الجراح الذي خلَف سفيان الثوري في علمه وفضله، وكان يشبّه به في سمته وهديه، كيف أنكر على ذلك الرجل، وغضب لما رآه قد تلوّن لهذا الحديث" انتهى كلام الذهبي.

وينظر الكلام على حديث الأطيط، في جواب السؤال رقم: (426117)

وأخرج عبد الله بن أحمد في "السنة" (1/105) عن خارجة بن مصعب الضبعي قال: "الجهمية كفار، بلّغوا نساءهم أنهن طوالق، وأنهن لا يحللن لأزواجهن، لا تعودوا مرضاهم، ولا تشهدوا جنائزهم، ثم تلا: (طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى) إلى قوله عزوجل: (الرحمن على العرش استوى)؛ وهل يكون الاستواء إلا بجلوس".

وأخرج الحكم بن معبد في كتاب السنة، عن عباد بن منصور قال: سألت الحسن وعكرمة عن قوله: الرحمن على العرش استوى قالا:  جالس" انتهى.

ولم يقل أحد إن خارجة بن مصعب أو الحسن أو عكرمة مشبهة أو مجسمة.

ومن السلف من فسر الاستواء بالقعود:

قال ابن القيم رحمه الله في اجتماع الجيوش الإسلامية ص158 :

"وفي تفسير السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس: (الرحمن على

العرش استوى) قال: قعد" انتهى.

ولهذا قال الشيخ السعدي رحمه الله: "  “نثبت أنه على عرشه، استوى استواء يليق بجلاله، سواءً فسر ذلك بالارتفاع، أو بعلوه على عرشه، أو بالاستقرار، أو الجلوس؛ فهذه التفاسير واردة عن السلف" انتهى من الأجوبة السعدية على الأسئلة الكويتية ص146

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " عثمان الدارمي في رده على بشر المريسي أورد أن الاستواء يأتي بمعنى الجلوس، ما رأي فضيلتكم؟

فأجاب: الاستواء على الشيء في اللغة العربية، يأتي بمعنى الجلوس، قال الله تعالى: وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ [الزخرف:12-13] ، والإنسان على ظهر الدابة جالس أم واقف؟ هو جالس، لكن هل يصح أن نعديه إلى استواء الله على العرش؟

هذا محل نظر، فإن ثبت عن السلف أنهم فسروا ذلك بالجلوس، فهم أعلم منا بهذا. وإلا؛ ففيه نظر.

وإلا، نقول: كيفية الاستواء مجهول، ومن جملة الجهل ألا ندري أهو جالس أو غير جالس، ولكن نقول: معنى الاستواء العلو، هذا أمر لا شك فيه، استوى على العرش يعني: علا علواً خاصاً، غير العلو العام الذي على جميع المخلوقات" انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (11/ 14).

والحاصل:

أن شيخ الإسلام هنا ينقل كلام ابن حامد رحمه الله، وأن إثبات الجلوس على العرش ورد في بعض الأحاديث المختلف في صحتها، وصرح به بعض التابعين، وفسروا به الاستواء على العرش.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب