الحمد لله.
أولا:
المسلمون مجمعون على الاعتقاد بأن الله تعالى متصف بغاية الكمال، وأنه منزه عن كل نقص مهما خف وقلّ.
وأقوال علماء المسلمين متواترة بتقرير اتصاف الله تعالى بالكمال المطلق؛ وإن اختلفوا في بعض الأمور المعينة، هل هي من الكمال في حقه، فيوصف بها، سبحانه. أو هي من النقص، فتنفى عنه.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى :
" الكمال ثابت لله ، بل الثابت له هو أقصى ما يمكن من الأكملية ، بحيث لا يكون وجود كمال لا نقص فيه، إلا وهو ثابت للرب تعالى، يستحقه بنفسه المقدسة.
وثبوت ذلك مستلزم نفي نقيضه؛ فثبوت الحياة يستلزم نفي الموت ، وثبوت العلم يستلزم نفي الجهل ، وثبوت القدرة يستلزم نفي العجز.
وأن هذا الكمال ثابت له بمقتضى الأدلة العقلية والبراهين اليقينية ، مع دلالة السمع – أي نصوص الوحي - على ذلك " انتهى من " مجموع الفتاوى " (6 / 71) .
ويقول: " ومما يبين الأمر في ذلك : أن المسلمين متفقون على تنزيه الله تعالى عن العيوب والنقائص ، وأنه متصف بصفات الكمال ؛ لكن قد يتنازعون في بعض الأمور : هل النقص في إثباتها ، أو نفيها ، وفي طريق العلم بذلك . " انتهى من " منهاج السنة النبوية" (2/563) .
ثم إن هذا أيضا ما تقضي به العقول السليمة ؛ فكيف يعبد الإنسان ربا ، لا يعتقد فيه الكمال المطلق ، أو يظن أن يتطرق النقص إلى ذاته ، أو شيء من صفاته ؟!
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" النقص منفي عنه عقلًا، كما هو منفي عنه سمعًا، والعقل يوجب اتصافه سبحانه بصفات الكمال، والنقص هو ما ضادَّ صفات الكمال" انتهى من "شرح الأصبهانية" (412) .
وينظر أيضا للفائدة: جواب السؤال رقم 247961
ثانيا:
ليس الكمال في أن يغضب دائما، على من يحب وعلى من يكره، أو يغضب إذا وجدت المعصية، ويغضب أيضا إذا وجدت الطاعة؛ بل هذا عين النقص الذي ينزه عنه رب العالمين، وبين أن الحسنة عنده لا تستوي مع السيئة. قال الله تعالى: ( أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ ) ص/28.
وقال تعالى: ( أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ ) الجاثية/21.
والآيات والنصوص الشرعية في تقرير ذلك المعنى: أوضح من أن تحتاج إلى إشارة، وأكثر من أن نلم بها في هذا المقام.
ولا يقال إن هذا تغيّر، لأمرين:
الأول: أن قولهم "تغير": مصطلح مجمل أدى بقوم إلى نفي كثير من صفاته، كرضاه، ومحبته، ورحمته، وغضبه، واستوائه على عرشه، ونزوله إلى السماء الدنيا، وغير ذلك من صفاته الفعلية التي يفعلها بمشيئته.
وقد ذم أهل العلم إطلاق القول ، نفياً أو إثباتاً ، في الألفاظ المحدثة المجملة ، قبل الاستفصال عن معناها عند قائلها ، ورد القول في ذلك إلى المحكم الثابت من الكتاب والسنة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله :
" إذا منع إطلاق هذه المجملات المحدثات في النفي والإثبات ، ووقع الاستفسار والتفصيل : تبيَّنَ سواءُ السبيل .
وبذلك يتبين أن الشارع عليه الصلاة والسلام ، نص علي كل ما يعصم من المهالك ، نصا قاطعا للعذر ، وقال تعالى : وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ سورة التوبة /115 ، وقال تعالى : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً المائدة/3 " .
ثم قال :
" وهذه الجملة : يُعلم تفصيلها بالبحث والنظر ، والتتبع والاستقراء ، والطلب لعلم هذه المسائل في الكتاب والسنة ؛ فمن طلب ذلك وجد في الكتاب والسنة من النصوص القاطعة للعذر في هذه المسائل ، ما فيه غاية الهدي والبيان والشفاء . وذلك يكون بشيئين :
أحدهما : معرفة معاني الكتاب والسنة .
والثاني : معرفة معاني الألفاظ التي ينطق بها هؤلاء المختلفون ، حتى يحسن أن يطبق بين معاني التنزيل ، ومعاني أهل الخوض في أصول الدين ؛ فحينئذ يتبين له أن الكتاب حاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، كما قال تعالي : كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ البقرة /213 ، وقال تعالي وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ الشورى /10 ، وقال فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً * أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً * وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً النساء / 59 – 61.
ولهذا يوجد كثيرا في كلام السلف والأئمة : النهي عن إطلاق موارد النزاع بالنفي والإثبات ، وليس ذلك لخلو النقيضين عن الحق ، ولا قصور أو تقصير في بيان الحق ؛ ولكن لأن تلك العبارة من الألفاظ المجملة المتشابهة ، المشتملة علي حق وباطل ؛ ففي إثباتها إثبات حق وباطل ، وفي نفيها نفي حق وباطل ، فيمنع من كلا الإطلاقين .
بخلاف النصوص الإلهية ، فإنها فرقان فرق الله بها بين الحق والباطل . ولهذا كان سلف الأمة وأئمتها يجعلون كلام الله ورسوله هو الإمام والفرقان الذي يجب اتباعه ؛ فيثبتون ما أثبته الله ورسوله ، وينفون ما نفاه الله ورسوله ، ويجعلون العبارات المحدثة المجملة المتشابهة ممنوعا من إطلاقها : نفيا وإثباتا ؛ لا يطلقون اللفظ ولا ينفونه إلا بعد الاستفسار والتفصيل ؛ فإذا تبين المعني أثبت حقه ونفي باطله ، بخلاف كلام الله ورسوله فإنه حق يجب قبوله وإن لم يفهم معناه ، وكلام غير المعصوم لا يجب قبوله حتى يفهم معناه .
وأما المختلفون في الكتاب ، المخالفون له ، المتفقون علي مفارقته : فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه ، وتجعل ما خالف ذلك من نصوص الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات التي لا يجوز اتباعها ، بل يتعين حملها علي ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه ، أوالإعراض عنها وترك التدبر لها " .
"درء تعارض العقل والنقل" (1/73-77) .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (127681) ورقم (233786)
والثاني: أننا إذا علمنا ما دلت عليه النصوص من إثبات الصفات الخبرية، وأفعاله المتعلقة بمشيئته، فقيل: إنه يلزم من هذا "التغير"؛ لم يكن مع المخالف النافي دليل شرعي ولا عقلي صحيح سالم، على بطلان ما سماه "تغيرا" في حق الله تعالى؛ ولم يكن على السني السلفي حرج في إطلاق ما جاءت به النصوص، وإن التزم ما شنع به أهل الكلام البدعي؛ فإن لازم الحق، لا يكون إلا حقا.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: " والشريعة لم تتعرض لهذا الاسم وأمثاله، لا بنفي ولا بإثبات، فليس له في الشريعة ذكر، حتى يحتاج أن ينظر في معناه.
والنظر العقلي إنما يكون في المعاني لا في مجرد الاصطلاحات، فلم يبق فيه بحث علمي: لا شرعي ولا عقلي.
وهذا لم يذكر دليلاً عقلياً على نفي الجوهر، فصار قد ألزمهم لوازم، ولم يذكر دليلاً على بطلانها الصفات، أو ليس بلازم.
فإن لم يكن لازماً، بطلت المقدمة الأولى.
وإن كان لازماً، منعت المقدمة الثانية، فإن لازم الحق حق.
وليس التزام مسمى هذا الاسم أبعد في الشرع والعقل من نفي الصفات، بل نفي الصفات أبعد في الشرع والنقل من إثبات مسمى هذا الاسم، فلا يجوز التزام نفي الصفات، الذي فيه مناقضة الأدلة الشرعية والعقلية، حذراً من التزام مسمى هذا الاسم، الذي لا يقوم على نفيه من الدليل شيء من أدلة إثبات الصفات، مع أنه لم يذكر على ذلك دليلاً أصلاً، وهو قد بين فساد أدلة النفاة لذلك من أهل الكلام." انتهى، من "درء تعارض العقل والنقل" (10/240).
ويقول ابن القيم، رحمه الله في نقاشه لنفاة الصفات، المشنعين على أهل السنة بالألقاب واللوازم الباطلة:
" فلو كان خصومكم كما زعمتم ـ وحاشاهم ـ مشبِّهةً ممثلةً مجسمةً لكانوا أقلَّ تنقصًا لربِّ العالمين وكتابِه وأسمائه وصفاته منكم بكثيرٍ كثيرٍ، لو كان قولهم يقتضي التنقصَ، فكيف وهو لا يقتضيه! ولو صرَّحوا به فإنهم يقولون: نحن أثبتْنا لله غاية الكمال ونعوت الجلال، ووصفناه بكل صفة كمالٍ، فإن لزم من هذا تجسيمٌ أو تشبيهٌ لم يكن هذا نقصًا ولا عيبًا ولا ذمًّا بوجهٍ من الوجوه، فإن لازم الحقِّ حقٌّ، وما لزم من إثبات كمال الربِّ ليس بنقصٍ. وأمَّا أنتم فنفيتم عنه صفات الكمال". انتهى، من "الصواعق المرسلة" (1/88).
ثالثا:
قاعدة أهل السنة في إثبات صفات الله تعالى هي: "إثباتُ ما أثبته الله لنفسه في كتابه، أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل."
وقاعدتهم في مسألة النفي في صفات الله تعالى: "نفيُ ما نفاه الله عن نفسه في كتابه، أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقاد ثبوت كمال ضده لله تعالى لأن الله أعلم بنفسه من خلقه، ورسوله أعلم الناس بربه؛ فنفي الموت عنه يتضمن كمال حياته، ونفي الظلم يتضمن كمال عدله، ونفي النوم يتضمن كمال قيُّوميَّته." انتهى من "صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة".
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم (322933)
وقد دلت النصوص على أن الله يغضب ويرضى، وأنه يغضب غضبا أشد من غضب، كما قال تعالى: (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا) النساء/93
وقال: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) المجادلة/14
وروى البخاري (4073) ومسلم (1793) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ فَعَلُوا بِنَبِيِّهِ، يُشِيرُ إِلَى رَبَاعِيَتِهِ، اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى رَجُلٍ يَقْتُلُهُ رَسُولُ اللَّهِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ).
وفي حديث الشفاعة: ( أَنَا سَيِّدُ الْقَوْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ هَلْ تَدْرُونَ بِمَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُبْصِرُهُمْ النَّاظِرُ وَيُسْمِعُهُمْ الدَّاعِي وَتَدْنُو مِنْهُمْ الشَّمْسُ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَلَا تَرَوْنَ إِلَى مَا أَنْتُمْ فِيهِ إِلَى مَا بَلَغَكُمْ أَلَا تَنْظُرُونَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ أَبُوكُمْ آدَمُ فَيَأْتُونَهُ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ وَأَسْكَنَكَ الْجَنَّةَ أَلَا تَشْفَعُ لَنَا إِلَى رَبِّكَ أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ وَمَا بَلَغَنَا فَيَقُولُ رَبِّي غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ وَنَهَانِي عَنْ الشَّجَرَةِ فَعَصَيْتُهُ نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ ...) الحديث ، رواه البخاري (3340) ومسلم (194).
فآدم عليه السلام يقول: " رَبِّي غَضِبَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَا يَغْضَبُ بَعْدَهُ مِثْلَهُ"، وهكذا يقول نوح وإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام، وهؤلاء صفوة الرسل، ثم يأتي المتهوّكون الحيارى الذين يأخذون دينهم فيما يأخذون عن أرسطو وأفلاطون، فيقولون: لا يوصف الله بالغضب!
أما المؤمنون بالكتاب والسنة، المعظمون لنصوص الوحي، المتبعون لسلف الأمة، فلا يرتابون في صفة من صفاته تعالى، ولا يضربون لها الأمثال، ولا يدفعون في صدورها بالشبهات والأهواء، بل يؤمنون ويسلّمون ويعظّمون، معتقدين أن الله تعالى لا يشبه أحدا من خلقه، ولا يشبهه أحد من خلقه.
قال الطحاوي رحمه الله في عقيدته المشهورة، ص80: "والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى" انتهى.
قال العلامة ابن أبي العز الحنفي رحمه الله في شرح الطحاوية (2/ 684): " قوله: (والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى) .
ش: قال تعالى: رضي الله عنهم [المائدة: 119]، [البينة: 8] ، لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة [الفتح: 18] . وقال تعالى: من لعنه الله وغضب عليه [المائدة: 60] ، وغضب الله عليه ولعنه [النساء: 93] ، وباءوا بغضب من الله [البقرة: 61] ونظائر ذلك كثيرة.
ومذهب السلف وسائر الأئمة إثبات صفة الغضب، والرضى، والعداوة، والولاية، والحب، والبغض، ونحو ذلك من الصفات، التي ورد بها الكتاب والسنة، ومنع التأويل الذي يصرفها عن حقائقها اللائقة بالله تعالى، كما يقولون مثل ذلك في السمع والبصر والكلام وسائر الصفات، كما أشار إليه الشيخ فيما تقدم بقوله: "إذْ كان تأويل الرؤية، وتأويل كل معنى يضاف إلى الربوبية - ترك التأويل، ولزوم التسليم، وعليه دين المسلمين".
وانظر إلى جواب الإمام مالك رضي الله عنه في صفة الاستواء كيف قال: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول". وروي أيضا عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفا عليها، ومرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك قال الشيخ رحمه الله [أي الطحاوي] فيما تقدم: "من لم يتوق النفي والتشبيه، زل ولم يصب التنزيه"، ويأتي في كلامه أن الإسلام بين الغلو والتقصير، وبين التشبيه والتعطيل.
فقول الشيخ رحمه الله: "لا كأحد من الورى": نفي للتشبيه.
ولا يقال: إن الرضى إرادة الإحسان، والغضب إرادة الانتقام - فإن هذا نفي للصفة.
وقد اتفق أهل السنة على أن الله يأمر بما يحبه ويرضاه، وإن كان لا يريده ولا يشاؤه، وينهى عما يسخطه ويكرهه، ويبغضه ويغضب على فاعله، وإن كان قد شاءه وأراده. فقد يحب عندهم ويرضى ما لا يريده، ويكره ويسخط ويغضب لما أراده...
وقد نفى الجهم ومن وافقه كل ما وصف الله به نفسه، من كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه وأسفه ونحو ذلك، وقالوا: إنما هي أمور مخلوقة منفصلة عنه، ليس هو في نفسه متصفا بشيء من ذلك!!
وعارض هؤلاء من الصفاتية ابن كُلّاب ومن وافقه، فقالوا: لا يوصف الله بشيء يتعلق بمشيئته وقدرته أصلا، بل جميع هذه الأمور صفات لازمة لذاته، قديمة أزلية، فلا يرضى في وقت دون وقت، ولا يغضب في وقت دون وقت، كما قال في حديث الشفاعة: "إن ربي قد غضب اليوم غضبا لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله"، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة، فيقولون: لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك، فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى يا رب؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك، فيقول: ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: يا رب، وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم بعده أبدا.
فيُستدل به على أنه يحل رضوانه في وقت دون وقت، وأنه قد يحل رضوانه ثم يسخط، كما يحل السخط ثم يرضى، لكن هؤلاء أحل عليهم رضوانا لا يتعقبه سخط.
وهم قالوا: لا يتكلم إذا شاء، ولا يضحك إذا شاء، ولا يغضب إذا شاء، ولا يرضى إذا شاء، بل إما أن يجعلوا الرضى والغضب والحب والبغض هو الإرادة، أو يجعلوها صفات أخرى، وعلى التقديرين فلا يتعلق شيء من ذلك لا بمشيئته ولا بقدرته" انتهى.
وقال الإمام أبو نصر السجزي (ت: 444 هـ) في كتابه الإبانة: "فأئمتنا كسفيان الثوري، ومالك، وسفيان بن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وعبد الله بن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن إبراهيم الحنظلي، متفقون على أن الله سبحانه بذاته فوق العرش، وأن علمه بكل مكان، وأنه يُرى يوم القيامة بالأبصار فوق العرش، وأنه ينزل إلى سماء الدنيا، وأنه يغضب ويرضى، ويتكلم بما شاء، فمن خالف شيئا من ذلك فهو منهم بريء، وهم منه براء" نقله الذهبي في سير أعلام النبلاء (17/ 656)، وفي العلو، ص 248
والواجب إثبات ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، واتباع سبيل السلف الصالح من الصحابة والتابعين والأئمة، ومجانبة ما عليه أهل الكلام المذموم.
ولا حرج في التفكر في صفات الله تعالى، على وجه الإثبات والتعظيم، والنظر في آثارها ومقتضياتها، فإن ذلك مما يزيد الإيمان واليقين.
والله أعلم.
تعليق