الحمد لله.
أولاً:
ليس هناك دليل صريح على عدم قتل الرسل؛ بل ظاهر النصوص يدل على حصول قتل الرسل، وإمكانيته.
قال الله تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [آل عمران: 183]
وقال تعالى:أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ [البقرة: 87]
قال الطبري:
"قل لهم: قد جاءتكم الرسل الذين كانوا من قبلي بالذي زعمتم أنه حجة لهم عليكم، فقتلتموهم، فلم قتلتموهم وأنتم مقرون بأن الذي جاءوكم به من ذلك كان حجة لهم عليكم؛ إن كنتم صادقين؟! "تفسير الطبري" جامع البيان" (7/ 449).
وقال الزجاج: "فأَعلم اللَّه - عزَّ وجلَّ - أنَّ أسلافهم قَد أتتهم الرسل بالبينات وبالذي طلبوا، فقتلوهم، فقال: (فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ)". انتهى من "معاني القرآن" (1/ 494).
وقال تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران: 144].
وفيها إشارة إلى أن قتل الرسول ممكن في نفس الأمر، ولذا ذكره الله عَدِيل الموت في الآية، وإنما امتنع وقوعه بحفظ الله له، وقد أعلمه بهذه العصمة بقوله تعالى: (والله يعصمك من الناس).
وأما قبل هذه الآية فلم يكن للنبي صلى الله عليه وسلم علم بهذه العصمة من أن يقتله الكفار، كما قد قتلوا من قتلوا من الأنبياء.
قال الإمام الشافعي، رحمه الله: " ويقال، والله تعالى أعلم: إن أول ما أنزل الله عليه اقرأ باسم ربك الذي خلق، ثم أنزل عليه بعدها ما لم يؤمر فيه بأن يدعو إليه المشركين.
فمرت لذلك مدة، ثم يقال أتاه جبريل عليه السلام عن الله عز وجل بأن يعلمهم نزول الوحي عليه ويدعوهم إلى الإيمان به، فكبر ذلك عليه، وخاف التكذيب، وأن يُتناول [يعني: بالقتل]، فنزل عليه يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس؛ فقال: يعصمك من قتلهم أن يقتلوك، حتى تبلغ ما أنزل إليك ... " انتهى، من "الأم" (5/363).
وفي "سنن الترمذي" (3046) عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم يُحْرَسُ، حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ، فَأَخْرَجَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأْسَهُ مِنَ الْقُبَّةِ، فَقَالَ لَهُمْ: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ انْصَرِفُوا فَقَدْ عَصَمَنِي اللهُ ) وحسنه الألباني.
بل روى الإمام أحمد في "مسنده" (3617)، عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، رضي الله عنه، قَالَ: ( لَأَنْ أَحْلِفَ بِاللهِ تِسْعًا: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قُتِلَ قَتْلًا؛ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَحْلِفَ وَاحِدَةً، وَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ عز وجل اتَّخَذَهُ نَبِيًّا، وَجَعَلَهُ شَهِيدًا ). قال محققو المسند: "إسناده صحيح على شرط مسلم".
وينظر: "الآداب الشرعية" لابن مفلح (3/91)، "البداية والنهاية"، لابن كثير (6/324) وما بعدها.
فقوله: "قُتل قتلاً": قال السندي: بسُمِّ ما تناول من الذراع بأن ظهرت آثاره عند الوفاة، ولا ينافي ذلك قوله تعالى: والله يعصمك من الناس إذ يكفي فيه العصمة عن القتل على الوجه المعتاد فيه، وقد عصم منه صلى الله عليه وسلم بلا ريب.
قوله: "وذلك بأنَّ الله .. ": قال السندي: أي: ذلك لما فيه من إظهار شرفه ومكانته عند الله بأنه نبي وشهيد، ولا شك أنَّ غاية الاجتهاد في إظهار شرفه خير من قلة الاجتهاد". كذا في "حاشية المسند" (6/116).
ولا يعارض ذلك ما سبق من تقرير عصمة الله عز وجل لنبيه من أن يقتله أعداؤه؛ فإن ذلك كان لأمد؛ فإذا عصمه الله حتى بلغ رسالته، وأدى أمانته، وأكمل الله عليه دينه؛ فقد انقضى أمله، وسواء مات بعد ذلك، أو قتل.
قال ابن الملقن، رحمه الله: " "ما زالت أكلة خيبر لتعاهدني، فهذا أوان انقطاع أبهرى": لكنه عفا عنهم حين لم يعلم أنه يقضي عليه؛ لأن الله تعالى دفع عنه ضر السم بعد أن أطلعه على المكيدة فيه بآية معجزة أظهرها له من كلام الذراع، ثم عصمه الله من ضره مدة حياته، حتى إذا دنا أجله بغى عليه السم، فوجد ألمه". انتهى، من "التوضيح شرح الجامع الصحيح" (18/609).
وقيل: إن الآية التي فيها ذكر عصمة النبي صلى الله عليه وسلم: إنما نزلت بعد قصة السم، فلا يمنع ذلك أن يكونوا قد تناولوه بشيء من أسباب ذلك قبلها.
قال ابن حجر: " قال الشمني فان قيل ما الجمع بين قوله تعالى وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ وبين هذا الحديث المقتضى ان موته صلى الله عليه وسلم بالسم الصادر من اليهودية والجواب ان الآية نزلت عام تبوك والسم كان بخيبر قبل ذلك". انتهى، من "فتح الباري" (1/352).
على أنه صلى الله عليه وسلم لم يمت بذلك السم، على الوجه المعتاد، كما سبق ذكره، بل حفظه الله، حتى أدى رسالته، وحضر أجله صلى الله عليه وسلم، فقدر الله له تأثير ذلك السم فيه، لما سبقت له عند الله جل جلاله من الحسنى، وجمع منازل الفضل، وخصال الشرف له، صلى الله عليه وسلم.
ثانياً:
القول بأن الرسل لا تقتل قال به أبو منصور الماتريدي، وتبعه بعض المعاصرين. وهو محجوج بما سبق بيانه من الأدلة.
قال أبو منصور الماتريدي: "وأما الرسل - عليهم السلام - فكانوا معصومين، لم يقتل رسول قط» «تفسير الماتريدي" (3/ 408).
قال د. أحمد الشهراني في كتابه "عوامل النصر والتمكين في دعوات المرسلين" (ص4 ): "الرسل مقطوع بنصرهم من الله - سبحانه -، وعصمتهم من القتل؛ بخلاف الأنبياء.
ومن تتبع تعبير القرآن رأى عجبًا؛ فإن القرآن إذا قطع بالنصر عبر بلفظ الرسل كقوله: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي".
وقد توسط الشيخ الأمين الشنقيطي، فذهب إلى أن الرسل والأنبياء الذين خاضوا جهادا لا يقتلون، في المعركة، وليس كل الرسل.
قال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله في تفسير قوله تعالى: "قوله تعالى: كَتَبَ اللَّهُ لأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَويٌّ عَزِيزٌ.
قد دلت هذه الآية الكريمة على أن رسل الله غالبون لكل من غالبهم.
والغلبة نوعان: غلبة بالحجة والبيان، وهي ثابتة لجميع الرسل.
وغلبة بالسيف والسنان، وهي ثابتة لمن أُمر بالقتال منهم، دون من لم يؤمر به.
وقد دلت هذه الآية الكريمة وأمثالها من الآيات، كقوله تعالى: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ: أنه لن يقتل نبي في جهاد قط؛ لأن المقتول ليس بغالب؛ لأن القتل قِسْمٌ مقابل للغلبة، كما بينه تعالى في قوله: وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ الآية، وقال تعالى: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا الآية، وقد نفى عن المنصور كونه مغلوبًا نفيًا باتًا في قوله تعالى: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ.
وبهذا تعلم أن الرسل الذين جاء في القرآن أنهم قتلوا، كقوله تعالى: أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ، وقوله تعالى: قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ: ليسوا مقتولين في جهاد" انتهى من "أضواء البيان" (7/ 883).
وخلاصة القول:
أنه ليس في نصوص الشرع، ولا أصوله ما يمنع قتل الأنبياء، وقد وقع ذلك كما حكى الله تعالى عن المكذبين، أعداء الرسل. ولا فرق في ذلك بين الأنبياء والرسل.
وقد حقق بعض أهل العلم: أن من قتل منهم، لم يقتل في جهاد أعداء الله.
والله أعلم
تعليق