الحمد لله.
أصل تسمية الخمر خمراً ليس لكونها تخمّر العقل فقط -وإن كان هذا المعنى قد غلب على تسميتها-؛ بل هناك معانٍ أخرى ذكرها أهل اللغة لسبب تسميتها خمراً. منها أن كل شراب تُرك حتى يتغير طعمة فهو خمر لتخمره كثيرا.
جاء في “جمهرة اللغة” (1/ 592): “وكل إِنَاء صببت فِيهِ شَيْئا وَتركته حَتَّى يتَغَيَّر طعمه فقد خمرته تخميرا”.
وجاء في “الصحاح” (2/ 649): “قال ابن الأعرابيّ سمِّيت الخَمْرُ خَمْراً لأنَّها تُرِكَتْ فاختمرت، واختِمارها: تغيُّر ريحِها. ويقال: سُمِّيَتْ بذلك لمخامرتها العقل”
فتشابه اسم الخمر في الدنيا، مع الخمر في الآخرة لا يقتضي التوافق في كل شيء؛ بل جاء النص على اختلاف الحقائق، وإنّما ذكر اسم الخمر في الآخرة، لتقريب فهم نعيم الشراب في الجنة مما كان محببا إليهم، غير أنّه بيّن لهم أن خمر الآخرة سالمة عن شوائب خمر الدنيا، وإذا نزع من الشيء ما يكدره فلا مانع من بقاء الاسم على ما فيه من الطيب.
وقد وصف الله خمر الجنة أنها لا لغو فيها ولا تأثيم، أي خالية عما يُذهب العقل ويوجب التنازع والبغضاء. بقوله: يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ [الطور: 23]، ووصفها بأنها: بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ * لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَالصافات/46-47.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ﴾:
“وقوله: يتنازعون فيها كأسا: أي يتعاطون فيها كأسا من الخمر لا لغو فيها ولا تأثيم، أي: لا يتكلمون فيها بكلام لاغ أي هذيان، ولا إثم، أي: فحش كما يتكلم به الشرَبة من أهل الدنيا، وقال ابن عباس: اللغو: الباطل، والتأثيم: الكذب، وقال مجاهد: لا يَستَبُّون ولا يؤثمون.
وقال قتادة: كان ذلك في الدنيا مع الشيطان فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها كما تقدم، فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيئ الفارغ عن الفائدة المتضمن هذيانا وفحشا، وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال: بيضاء لذة للشاربين لا فيها غول ولا هم عنها ينزفون [الصافات: 46- 47] وقال: لا يصدعون عنها ولا ينزفون [الواقعة: 19] وقال هاهنا يتنازعون فيها كأسا لا لغو فيها ولا تأثيم” انتهى من “تفسير ابن كثير” (7/ 404).
جاء في “المعجم الاشتقاقي المؤصل” (2/ 926):
“قوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} [الإنسان: 17]. يفسر لنا سر يقظة الذهن والعقل الذي يصحب خمر الجنة، فلا تغتال عقل شاربها: أنها مزجت بما يوقظ العقل ويُحِدُّه ويذكيه»
ومنه نعلم أنه لا يلزم من تشابه الأسماء بين خمر الدنيا وخمر الآخرة، التشابه في الاتفاق في الحقائق والصفات؛ بل نص القرآن الكريم بمنطوقه ومفهومه على طهارة خمر الجنة من الشوائب المكدرة.
والله أعلم.
تعليق