الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

لماذا لا نقول إن كلام الله مخلوق مثل الرزق؟

532725

تاريخ النشر : 08-10-2024

المشاهدات : 944

السؤال

أنا أعلم أن صفة الكلام ذاتية فعلية له سبحانه وتعالى، وطبعًا ليست صفاته مخلوقة فهي منه جل وعلا، فالله متكلم، والله يتكلم، تكلم بالقرآن وغيره كما ثبت في الكتاب والسنة، لكن لا أفهم كيف الكلمات التي قالها الله ليست بمخلوقة، الكلمات، القرآن، وقستها على الرزق، فالله رزاق، ويرزق، هذه صفته وفعله، ثم الرزق نفسه هو خلق من خلقه، فالله يخلق الرزق.
فلماذا لم نقل إن الله تعالى خلق كلامه، أنه خلق الكلمات؟ كيف يكون القرآن صفة من صفاته وهو لا فعل ولا ذات، إنما هو كلمات نتجت عن فعل، كما المخلوقات نتجت عن الخلق، والأرزاق من الرزق؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

القرآن كلام الله، والكلام صفة المتكلم، كما نص على ذلك أهل العلم.

ولا شك أن التكلم صفة للمتكلم، وكذلك الكلام الذي يصدر منه، ويضاف إليه، فيقال: كلام زيد، وكلام عمروٍ.

والفرق بين الكلام والرزق، أي ما يرزقه الله لعباده: أن الرزق أعيان قائمة بنفسها، بخلاف الكلام، فليس شيئا قائما بنفسه منفصلا عن المتكلم، وإنما هو شيء يقوم به، وهذا معنى الصفة.

وقد أضاف الله الكلام لنفسه، فقال الله تعالى: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ التوبة/6.

والمراد بالكلام في الآية القرآن، وليس التكلم، كما هو بين.

وما أضافه الله لنفسه إما أن يكون صفة له، أو مخلوقا أضافه إليه للتشريف.

1-فإن كان عينا قائمة بذاتها، فهو مخلوق كـ (ناقة الله)، و(بيت الله).

2-وإن لم يكن عينا تقوم بذاتها، فهو صفة، كعلم الله، وسمع الله، وكلام الله.

قال اللالكائي رحمه الله في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” (2/ 300): ” وَحَكَى إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي أُوَيْسٍ إِجْمَاعَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ قَالَ: كَانَ مَالِكٌ وَعُلَمَاءُ أَهْلِ بَلَدِنَا يَقُولُونَ: الْقُرْآنُ مِنَ اللَّهِ، وَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ شَيْءٌ مَخْلُوقٌ” انتهى.

فقوله: “من الله” هو كقول غيره: صفة لله.

قال أبو القاسم التيمي الأصفهاني رحمه الله في “الحجة في بيان المحجة” (2/ 203): ” أجمع المسلمون أن القرآن كلام الله، وإذا صح أنه كلام الله، صح أنه صفة لله تعالى، وأنه عز وجل موصوف به، وهذه الصفة لازمة لذاته.

تقول العرب: زيد متكلم، فالتكلّم صفة له، إلا أن حقيقة هذه الصفة: الكلام، وإذا كان كذلك، كان القرآن كلام الله، وكانت هذه الصفة لازمة له، أزلية.

والدليل على أن الكلام لا يفارق المتكلم، أنه لو كان يفارقه لم يكن للمتكلم إلا كلمة واحدة، فإذا تكلم بها، لم يبق له كلام، فلما كان المتكلم قادرا على كلماتٍ كثيرة، [كلمةٍ] بعد كلمةٍ، دلَّ على أن الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة” انتهى.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ” الكلام صفة المتكلم، والقول صفة القائل، وكلام الله ليس بائناً منه؛ بل أسمعه لجبريل، ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال تعالى: {والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق}.

ولا يجوز أن يقال: إن كلام الله فارق ذاته، وانتقل إلى غيره؛ بل يقال، كما قال السلف: إنه كلام الله، غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود.

فقولهم: ” منه بدأ “: ردٌّ على من قال: إنه مخلوق في بعض الأجسام، ومن ذلك المخلوق ابتدأ. فبينوا أن الله هو المتكلم به؛ ” منه بدأ “: لا من بعض المخلوقات “.

وإليه يعود “: أي فلا يبقى في الصدور منه آية، ولا في المصاحف حرف” انتهى من “مجموع الفتاوى” (12/ 561).

وقال رحمه الله: “فليس في مجرد الإضافة ما يستلزم أن يكون المضاف إلى الله صفة له، بل قد يضاف إليه من الأعيان المخلوقة وصفاتها القائمة بها، ما ليس بصفة له، باتفاق الخلق، كقوله تعالى: (بيت الله) و (ناقة الله) و (عباد الله)، بل وكذلك (روح الله) عند سلف المسلمين، وأئمتهم، وجمهورهم.

ولكن إذا أضيف إليه ما هو صفة له، وليس بصفة لغيره، مثل كلام الله وعلم الله ويد الله ونحو ذلك؛ كان صفة له” انتهى من “الجواب الصحيح” (4/ 414).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: “القرآن كلام الله، والكلام ليس عيناً قائمة بنفسها حتى يكون بائناً من الله، ولو كان عيناً قائمة بنفسها بائنة من الله؛ لقلنا: إنه مخلوق، لكن الكلام صفة للمتكلم به، فإذا كان صفة للمتكلم به، وكان من الله؛ كان غير مخلوق؛ لأن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة” انتهى من “شرح السفارينية” (1/ 427).

ثانيا:

هناك فرق بين كلام الله، وبين المخلوقات، كما قال تعالى: إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ النحل/40.

فميَّز الله بين الأشياء المخلوقة، وبين قوله وكلامه الذي يقع به الخلق.

وهذا الكلام والقول: سابق للمخلوقات، وبه تكون المخلوقات.

فالمخلوقات إنما تكون بالكلمة (كن)، ولو كانت (كن) مخلوقة، لكانت تحتاج إلى كلمة أخرى لخلقها، سابقة عليها، ويتسلسل الأمر، والتسلسل ممنوع.

قال اللالكائي رحمه الله: ” ومن دلائل الكتاب، من حيث الاستنباط قوله تبارك وتعالى: {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} [يس: 82]

أخبرنا الحسين بن أحمد بن إبراهيم الطبري قال: حدثنا محمد بن بندار ومحمد بن إسحاق بن مبشر الطبريان قالا: حدثنا أبو نعيم الإستراباذي قال: قلت للربيع: سمعت البويطي يقول: إنما خلق الله كل شيء بـ(كن)، فإن كانت (كن) مخلوقة؛ فمخلوق خلق مخلوقا.

قال: فحكاه الربيع.

قلت: وهذا معنى ما يعبرون عنه العلماء اليوم: إن هذا كن الأول كان مخلوقا، فهو مخلوق بكن أخرى، فهذا يؤدي إلى ما يتناهى، وهو قول مستحيل” انتهى من “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” (2/ 242).

وقال أبو القاسم التيمي الأصفهاني رحمه الله: “والدليل على أن القرآن غير مخلوق: أنه كلام الله، وكلام الله سبب إلى خلق الأشياء، قال الله عز وجل: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} أي أردنا خلقه، وإيجاده، وإظهاره.

فقوله: كن، كلام الله وصفته، والصفة التي منها يتفرع الخلق والفعل، وبها يتكون المخلوق: لا تكون مخلوقة، ولا يكون مثلها للمخلوق” انتهى من “الحجة في بيان المحجة” (2/ 203).

وقال ابن بطة رحمه الله في “الإبانة” (6/ 149): ” فالجهمي الضالُّ، وكلُّ مبتدعٍ غالٍ: أعمى، أصمُّ؛ قد حرمت عليه البصيرة، فهو لا يسمع إلا ما يهوى، ولا يبصر إلا ما اشتهى. ألم يسمع قول الله عز وجل: {إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} [النحل: 40]. فأخبر أن القول قبل الشيء، لأن إرادته الشيء يكون قبل أن يكون الشيء، فأخبر أن إرادة الشيء يكون قبل قوله، وقوله قبل الشيء، إذا أراد شيئا كان بقوله.

وقال: {إنما أمره إذا أراد شيئا} [يس: 82]: فالشيء ليس هو أمره، ولكن الشيء كان بأمره سبحانه {إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون} [آل عمران: 47]” انتهى.

وقال ابن بطة رحمه الله أيضا: ” ويقال للجهمي: ألست مقرا بأن الله تعالى إذا أراد شيئا قال له: كن، فكان؟ فيقول: لا أقول إنه يقول. فيردُّ كتابَ الله، ويَكفر به. ويقول: لا، ولكنه إذا أراد شيئا؛ كان.

فيقال له: يريد أن تقوم القيامة، أن يموت الناس كلهم، وأن يبعثوا كلهم، فيكون ذلك بإرادته قبل أن [يقول]؟! ” انتهى من “الإبانة” (6/ 193).

وقال أبو الحسن الأشعري رحمه الله في “الإبانة”، ص65: “ومما يدل من كتاب الله على أن كلامه غير مخلوق؛ قوله سبحانه: (إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون)، فلو كان القرآن مخلوقا، لوجب أن يكون مقولا له: (كن فيكون) .

ولو كان الله عز وجل قائلا للقول: ” كن “، لكان للقول قول، وهذا يوجب أحد أمرين:

1-إما أن يؤول الأمر إلى أن قوله تعالى غير مخلوق.

2-أو يكون كل قول واقع بقول، لا إلى غاية، وذلك محال.

وإذا استحال ذلك؛ صح وثبت أن لله عز وجل قولاً غير مخلوق” انتهى.

ثالثا:

ومما يدل على أن القرآن، وكلام الله عامة ليس بمخلوق: قوله تعالى: أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ الأعراف/54

والخلق هنا: المراد به المخلوقات.

فميز بين الخلق، أي المخلوقات، وبينَ الأمر، الذي هو كلامه.

قال اللالكائي رحمه الله: ” استنباط آية أخرى من كتاب الله وهي قوله: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54]؛ ففرَّقَ بينهما.

والخلق: هو المخلوقات. والأمر: هو القرآن.

أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن العباس قال: أخبرنا عبد الله بن محمد البغوي قال: حدثنا سعيد بن نصير أبو عثمان الواسطي الشعيري في مجلس خلف بن هشام البزار قال: سمعت ابن عيينة يقول: ” ما يقول هذا الدويبة؟ يعني بشرا المريسي. قالوا: يا أبا محمد: يزعم أن القرآن مخلوق. قال: فقد كذب. قال الله عز وجل: {ألا له الخلق والأمر} [الأعراف: 54] فالخلق: خلق الله، والأمر: القرآن”.

وكذلك قال أحمد بن حنبل، ونعيم بن حماد، ومحمد بن يحيى الذهلي، وعبد السلام بن عاصم الرازي، وأحمد بن سنان الواسطي، وأبو حاتم الرازي” انتهى من “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” (2/ 243).

رابعا:

ومما يدل كذلك على أن كلام الله غير مخلوق: قوله تعالى: وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَالسجدة/13

قال اللالكائي رحمه الله: ” استنباط آية أخرى من القرآن، وهو قوله عز وجل: {ولكن حق القول مني} [السجدة: 13]؛ وما كان منه فهو غير مخلوق.

وذكر أحمد بن فرج الضرير قال: حدثنا علي بن الحسن الهاشمي قال: حدثنا عمي قال: سمعت وكيع بن الجراح يقول: “من زعم أن القرآن مخلوق، فقد زعم أن شيئا من الله مخلوق.

فقلت: يا أبا سفيان، من أين قلت هذا؟

قال: لأن الله تبارك وتعالى يقول: {ولكن حق القول مني} [السجدة: 13]؛ ولا يكون من الله شيء مخلوق”.

وكذلك فسره أحمد بن حنبل، ونعيم بن حماد، والحسن بن الصباح البزار، وعبد العزيز بن يحيى المكي الكناني” انتهى من “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” (2/ 244).

خامسا:

ومن الأدلة كذلك، قوله تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لقمان/27

قال اللالكائي رحمه الله: ” استنباط آية أخرى من القرآن، وهو قوله: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} [لقمان: 27]؛ والمخلوقات كلها تنفد وتفنى، وكلمات الله لا تفنى. وتصديق ذلك قوله تعالى حين يفنى خلقه: {لمن الملك اليوم} [غافر: 16]، فيجيب تعالى نفسه: {لله الواحد القهار} [إبراهيم: 48]” انتهى من “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” (2/ 245).

وقد أجمع أهل السنة على أن كلام الله غير مخلوق، وأن من قال إنه مخلوق فقد كفر.

قال ابن القيم في “القصيدة النونية”، ص42:

ولقد تقلد كفرَهم خمسون في … عشر من العلماء في البلدان

واللالكائي الإمام حكاه عنـ … ـهم، بل حكاه قبله الطبراني

وينظر ذكر من قال بذلك، في “شرح أصول اعتقاد أهل السنة” للطبري اللالكائي (2/ 300- 342)، وقد عدّ أكثر من خمسمائة من علماء الإسلام يقولون بكفر من قال: القرآن مخلوق.

والله أعلم.

 

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب