الحمد لله.
أولا:
ذكر المفسرون معنى الكريمة، وما فيها من دلالات الإيمان والتعلق بالله وحده وحسن الظن به وجميل التوكل عليه.
وذلك أنّ يعقوب عليه السلام لما بلغه خبر بنيامين -ولده الذي أبقاه يوسف عنده- تناهى حزنه، وبلغ جهده، وهيج عليه ذلك أحزانَه على يوسف فأعرض عنهم، وقال يا أسفى، يا حزناه، على يوسف، وابيضت عيناه من الحزن، يعني: عمي بصره، وتأسف على يوسف.
فلما لامه أبناؤه على شدة وجده، وتجدد أحزانه، وأنه هالك من شدة ذلك عليه، قال لهم: قال: ﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ [يوسف: 86]
أي إني لا أشكو إلى أحد منكم، أو من غيركم، إنما أشكو إلى ربي، داعياً له، وملتجئاً إليه، فخلوني وشكايتي.
وهذا معنى توليه عنهم، أي فتولى عنهم إلى الله والشكاية إليه" انظر: "تفسير البغوي" (2/ 509) و"تفسير الزمخشري" (2/ 499).
وقال القاسمي:
﴿إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي أي غمي وحالي. حُزْنِي إِلَى اللَّهِ.
أي لا أشكو إلى أحد منكم ومن غيركم، إنما أشكو إلى ربي داعيا له، وملتجئا إليه، فخلّوني وشكايتي، فأنا أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ؛ أي لمن شكا إليه، من إزالة الشكوى: ما يوجب حسن الظن به، وهو مع ظن عبده به. "تفسير القاسمي" (6/ 211).
ثانيا:
وفي هذه الحال العالية الرفيعة من الأدب مع الله جل جلاله، وشكوى الهم والحزن والبلاء إليه، لا إلى خلقه، آداب عظيمة للمسلم، يتأسى بهدي الأنبياء فيها، ويتأدب بآدابهم؛ فمن ذلك:
أولا: حسن الظن بالله جل جلاله. فعن قتادة: (قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) الآية: ذُكر لنا أن نبي الله يعقوب لم ينزل به بلاءٌ قط إلا أتى حُسْنَ ظنّه بالله من ورائه.
وعن الحسن، قال: ما ساء ظنه بالله ساعةً من ليل ولا نهارٍ.
ثانيا: ألا ينزل العبد شكواه بغير الله، ولا يسأل المعونة على تفريج الكربة إلا منه سبحانه. فعن الحسن: (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) قال: حاجتي وحزني إلى الله.
وعن طلحة بن مصرِّف الإيامي قال، ثلاثة لا تذْكُرْهنّ واجتنب ذكرهُنّ: لا تشك مَرَضَك، ولا تَشكُّ مصيبتك، ولا تزكِّ نفسك. [ روى هذه الآثار: الإمام الطبري في تفسيره لهذه الآية ].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله: " فالشكوى إلى الله لا تنافي الصبر الجميل ويروى عن موسى عليه الصلاة والسلام أنه كان يقول: " اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان، وبك المستغاث، وعليك التكلان ".
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم {اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس أنت رب المستضعفين وأنت ربي اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني؟ أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي غير أن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي سخطك أو يحل علي غضبك لك العتبى حتى ترضى} …
بخلاف الشكوى إلى المخلوق. قرئ على الإمام أحمد في مرض موته أن طاوسا كره أنين المريض. وقال: إنه شكوى. فما أن حتى مات.
وذلك أن المشتكي طالب بلسان الحال إما إزالة ما يضره، أو حصول ما ينفعه، والعبد مأمور أن يسأل ربه دون خلقه، كما قال تعالى: {فإذا فرغت فانصب * وإلى ربك فارغب}.
وقال صلى الله عليه وسلم لابن عباس: (إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله)". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (10/666).
وسئل شيخ الإسلام رحمه الله: " عمن أصيب بمرض فإذا اشتد عليه الوجع استغاث بالله تعالى ويبكي. فهل تكون استغاثته مما ينافي الصبر المأمور به؟ أو هو تضرع والتجاء؟".
فأجاب: " دعاؤه الله واستغاثته به واشتكاؤه إليه لا ينافي الصبر المأمور به. وإنما ينافيه في ذلك الاشتكاء إلى المخلوق. ولقد قال يعقوب عليه السلام {فصبر جميل} وقال: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله.} وقد روي عن طاووس: أنه كره أنين المريض. وقال: إنه شكوى وقرئ ذلك على أحمد بن حنبل في مرض موته فما أن حتى مات. ويروى عن السري السقطي أنه جعل قول المريض: آه من ذكر الله وهذا إذا كان بينه وبين الله وهذا كما يروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ في صلاة الفجر: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} ثم بكى حتى سمع نشيجه من آخر الصفوف فالأنين والبكاء من خشية الله والتضرع والشكاية إلى الله عز وجل حسن وأما المكروه فيكره. والله أعلم". انتهى، من "مجموع الفتاوى" (24/284).
وقال ابن القيم، رحمه الله: " فالشكوى نوعان:
أحدهما: الشكوى إلى اللَّه، فهذا لا ينافي الصبر؛ كما قال يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} [يوسف: 86] مع قوله: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18، 83].
وقال أيوب عليه السلام: {مَسَّنِيَ الضُّرّ} [الأنبياء: 83] مع وصف اللَّه له بالصّبر.
وقول سيّد الصابرين صلوات اللَّه وسلامه عليه: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلّة حيلتي. . . " الحديث.
وقول موسى صلى الله عليه وسلم: "اللهم لك الحمد، وإليك المُشْتكى، وأنت المُسْتعان، وبك المُسْتغاث، وعليك التُّكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك".
والنوع الثاني: شكوى المُبتلى بلسان الحال أو المقال، فهذا لا يُجامع الصبر بل يُضادّه، ويُبطله". انتهى، من "عدة الصابرين" (1/25).
والله أعلم.
تعليق