الحمد لله.
أولاً:
اختلف أهل التفسير في المراد بالذرية في الآية الكريمة: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه}، على قولين مشهورين:
القول الأول: أن المراد أنهم قوم من ذرية بني إسرائيل، وأن الضمير في (قومه) يعود على موسى.
فالذين آمنوا بموسى هم أبناء الذين دعاهم موسى، لأنّ الآباء استمروا على الكفر، إما لأن قلوب الأولاد ألين، أو دواعيهم على الثبات على الكفر أخف. وهذا اختيار الطبري وجمهور أهل التفسير.
قال الطبري رحمه الله:
"عن مجاهد، في قوله تعالى: " {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} [يونس: 83] قال: أولاد الذين أرسل إليهم، من طول الزمان ومات آباؤهم ".. ثم ذكر الأقوال الأخرى، وقال:
وأولى هذه الأقوال عندي بتأويل الآية القول الذي ذكرته عن مجاهد، وهو أن الذرية في هذا الموضع أريد بها ذرية من أُرسل إليه موسى من بني إسرائيل، فهلكوا قبل أن يقروا بنبوته، لطول الزمان. فأدركت ذريتُهم، فآمن منهم من ذكر اللهُ بموسى. وإنما قلت هذا القول أولى بالصواب في ذلك لأنه لم يجر في هذه الآية ذكر لغير موسى" انتهى من "تفسير الطبري" (12/ 245).
وقال القرطبي رحمه الله:
قوله تعالى: (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه): الهاء عائدة على موسى. قال مجاهد: أي لم يؤمن منهم أحد، وإنما آمن أولاد من أرسل موسى إليهم من بني إسرائيل، لطول الزمان، هلك الآباء وبقي الأبناء فآمنوا، وهذا اختيار الطبري" انتهى
وقال الشوكاني رحمه الله:
"الضمير في قوله تعالى (إلا ذرية من قومه) يرجع إلى موسى، أي: من قوم موسى، وهم طائفة من ذراري بني إسرائيل. وقيل: المراد طائفة من ذراري فرعون، فيكون الضمير عائدا على فرعون، قيل: ومنهم مؤمن آل فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه" انتهى "فتح القدير للشوكاني" (2/ 529).
وقال السعدي رحمه الله:
"{فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} أي: شباب من بني إسرائيل، صبروا على الخوف، لما ثبت في قلوبهم الإيمان" انتهى من "تفسير السعدي = تيسير الكريم الرحمن" (ص371):
القول الثاني: أن الضمير في (قومه) تعود على فرعون، وأنّ المراد بالذرية الذين آمنوا هم القليل من قوم فرعون، وهم الخازن وامرأة فرعون، والذي يكتم إيمانه والسحرة. وهو اختيار ابن كثير وابن عطية.
قال ابن كثير رحمه الله:
"قال العوفي: عن ابن عباس: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم} قال: فإن الذرية التي آمنت لموسى، من أناس غير بني إسرائيل، من قوم فرعون يسير، منهم: امرأة فرعون، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه. وروى علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس في قوله: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه} يقول: بني إسرائيل.
وعن ابن عباس، والضحاك، وقتادة (الذرية): القليل.
وقال مجاهد في قوله: {إلا ذرية من قومه} يقول: بني إسرائيل. قال: هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى، من طول الزمان، ومات آباؤهم.
واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية: أنها من بني إسرائيل، لا من قوم فرعون، لعود الضمير على أقرب المذكورين.
وفي هذا نظر؛ لأنه أراد بالذرية: الأحداث والشباب، وأنهم من بني إسرائيل. فالمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى، عليه السلام، واستبشروا به، وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبهم المتقدمة، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه؛ ولهذا لما بلغ هذا فرعون حذر كل الحذر، فلم يُجْدِ عنه شيئا. ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى، و{قالوا أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا قال عسى ربكم أن يهلك عدوكم ويستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون} [الأعراف: 129] .
وإذا تقرر هذا؛ فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم موسى، وهم بنو إسرائيل؟" انتهى من تفسير ابن كثير.
وانظر تفسير ابن عطية، فقد أطال ورجح أن المراد ذرية من قوم فرعون "تفسير ابن عطية" (3/ 136).
ثانياً:
أما التوفيق بين إيمان السحرة وغيرهم من آل فرعون، وقوله تعالى: {فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه….}، فيقال فيه:
أما على القول بأنّ المراد بالذرية الذين آمنوا: هم القليل من قوم فرعون، وهم الخازن وامرأة فرعون والذي يكتم إيمانه والسحرة في تفسير الآية، وليس الحديث هنا عمن آمن من بني إسرائيل، أو عمن آمن بموسى عموما= فعلى هذا القول، يتضح معنى الآية، ولا إشكال فيها. وهذا اختيار ابن عطية وابن كثير، وهما من أئمة التفسير.
وأما على القول بأن المراد بالذرية: أنهم كانوا ذرية بني إسرائيل، من قوم موسى، فيشكل عليه وجود مؤمنين آخرين من آل فرعون، بل يشكل عليه كذلك: إيمان بني إسرائيل عامة بموسى، ثم خروجهم معه، ولم يكونوا ذرية فقط؟
والجواب عن هذا الإشكال، على هذا القول: إن الآية إنما تتحدث عن أول الأمر في دعوة موسى، وأنّ الذي سارع بالإيمان به، وأظهروه في الملأ علانية: هم هذه الذرية – الفتية الشابة – القليلة من بني إسرائيل، ثم آمن بموسى بعد ذلك بقية قومه، ومن آمن به من قوم فرعون.
قال البيضاوي رحمه الله:
"فَما آمَنَ لِمُوسى أي في مبدأ أمره (إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) إلا أولاد من أولاد قومه بني إسرائيل دعاهم فلم يجيبوه خوفاً من فرعون إلا طائفة من شبانهم" انتهى من "تفسير البيضاوي" (3/ 121).
وقال الألوسي رحمه الله:
"أي فما آمن له عليه السلام، في مبدأ أمره: إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ، أي إلا أولاد، بعض بني إسرائيل، حيث دعا عليه السلام الآباء فلم يجيبوه، خوفا من فرعون، وأجابته طائفة من شبانهم.
فالمراد من الذرية الشبان، لا الأطفال" انتهى من "تفسير الألوسي" (6/ 157).
وقال الطاهر ابن عاشور، رحمه الله: "و(على) في قوله: على خوف من فرعون بمعنى (مع)، مثل: ( وآتى المال على حبه )؛ أي: آمنوا مع خوفهم، وهي ظرف مستقر في موضع الحال من (ذرية) ، أي في حال خوفهم المتمكن منهم.
وهذا ثناء عليهم بأنهم آمنوا ولم يصدهم عن الإيمان خوفهم من فرعون.
والمعنى: أنهم آمنوا عند ظهور معجزته، أي أعلنوا الإيمان به في ذلك الموطن، لأن الإيمان لا يعرف إلا بإظهاره، ولا فائدة منه إلا ذلك الإظهار؛ أي: من الحاضرين في ذلك المشهد من بني إسرائيل. فإن عادة هذه المجامع أن يغشاها الشباب واليافعون، فعبر عنهم بالذرية أي الأبناء، كما يقال: الغلمان، فيكونون قد آمنوا من تلقاء أنفسهم.
وكل هذا لا يقتضي أن بقية قومه كفروا به، إذ يحتمل أن يكونوا آمنوا به بعد ذلك لما بلغتهم دعوته، لأنه يكون قد ابتدأ بدعوة فرعون، مبادرة لامتثال الأمر من الله بقوله: اذهبا إلى فرعون إنه طغى [طه: 43]، فيكون المأمور به ابتداءً هو دعوة فرعون، وتخليص بني إسرائيل من الأسر". انتهى، من "التحرير والتنوير" (11/260).
والله أعلم.
تعليق