الحمد لله.
قال ابن القيم رحمه الله : " الجهال بالله وأسمائه وصفاته ، المعطلون لحقائقها ، يُبَغِّضون اللهَ إلى خلقه ، ويقطعون عليهم طريق محبته ، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون !!
ونحن نذكر من ذلك أمثلة يُحتذى عليها : فمنها أنهم يقررون في نفوس الضعفاء أن الله سبحانه لا تنفع معه طاعة ، وإن طال زمانها وبالغ العبد وأتى بها بظاهره وباطنه ، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره ؛ بل شأنه سبحانه أن يأخذ المطيع المتقي من المحراب إلى الماخور ، ومن التوحيد والمسبحة إلى الشرك والمزمار ، ويقلب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر ، ويروون في ذلك آثار صحيحة لم يفهموها ، وباطلة لم يقلها المعصوم ، ويزعمون أن هذا حقيقة التوحيد .. " انتهى ، الفوائد (159) .
ثم قال رحمه الله : " ... فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة ؛ فلا بفعل الخير يستأنس ، ولا بفعل الشر يستوحش ، وهل في التنفير عن الله وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا ؟!! ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير عن الله لما أتوا بأكثر من هذا .
وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر ، ويرد على أهل البدع ، وينصر الدين ، ولعمر الله : العدو العاقل أقل ضررا من الصديق الجاهل ، وكتب الله المنزلة كلها ورسله كلهم شاهدة بضد ذلك ، ولا سيما القرآن ؛ فلو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله به الناس إليه لصلح العالم صلاحا لا فساد معه .
فالله سبحانه أخبر ، وهو الصادق الوفي ، أنه إنما يعامل الناس بكسبهم ، ويجازيهم بأعمالهم ، ولا يخاف المحِسن لديه ظلما ولا هضما ، ولا يخاف بخسا ولا رهقا ، ولا يضيع عمل محسن أبدا ، ولا يضيع على العبد مثقال ذرة ، ولا يظلمها : ( وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما ) ، وإن كان مثقال حبة من خردل جازاه بها ، ولا يضيعها عليه ، وأنه يجزي بالسيئة مثلها ، ويحبطها بالتوبة والندم والاستغفار والحسنات والمصائب ، ويجزي بالحسنة عشر أمثالها ، ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة !!
وهو الذي أصلح الفاسدين ، وأقبل بقلوب المعرضين ، وتاب على المذنبين ، وهدى الضالين ، وأنقذ الهالكين ، وعلَّم الجاهلين ، وبصَّر المتحيرين ، وذكَّر الغافلين ، وآوى الشاردين ، وإذا أوقع عقابا أوقعه بعد شدة التمرد والعتو عليه ، ودعوة العبد إلى الرجوع إلى إليه ...) . انتهى
الفوائد (161) .
وهذا الحديث العظيم رواه البخاري (3208) ومسلم (2643) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه ، وقد أشكل على بعض الناس قوله صلى لله عليه وسلم فيه : ( فَإِنَّ الرَّجُلَ مِنْكُمْ لَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ كِتَابُهُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّارِ إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ).
وهو مثال لما أشار إليه ابن القيم رحمه الله من الآثار الصحيحة التي لم يفهموها .
والجواب عن ذلك أن هذا في حق من لا يعمل إخلاصا وإيمانا ، بل يعمل بعمل أهل الجنة
( فيما يبدو للناس ) فقط ، كما جاء موضحا في الحديث الآخر الذي رواه البخاري (4207) ومسلم (112) عَنْ سَهْلٍ قَالَ الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَاقْتَتَلُوا فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ فَقِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ فَقَالَ إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالُوا أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ لَأَتَّبِعَنَّهُ فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ وَمَا ذَاكَ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ : ( إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ ).
وأما من يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة ، إخلاصا وإيمانا ، فالله تعالى أعدل وأكرم وأرحم من أن يخذله في نهاية عمره .
بل هذا أهل للتوفيق والتسديد والتثبيت ، كما قال تعالى : ( يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) إبراهيم/27 ، وقال : ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ ) العنكبوت/69 ، وقال : ( إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ) يوسف/90 ، وقال : ( يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ) آل عمران/171.
قال ابن القيم رحمه الله في "الفوائد" ص 163 : " وأما كون الرجل يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب ، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس ، ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة قد أحبه الله ورضيه لم يبطله عليه . وقوله : ( لم يبق بينه وبينها إلا ذراع ) يشكل على هذا التأويل ، فيقال : لما كان العمل بآخره وخاتمته ، لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له ، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خُذل بها في آخر عمره ، فخانته تلك الآفة والداهية الباطنة في وقت الحاجة ، فرجع إلى موجبها ، وعملت عملها ، ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه ... والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض " انتهى .
وقال ابن رجب رحمه الله :
" وقوله : ( فيما يبدو للناس ) إشارة إلى أن باطن الأمر يكون بخلاف ذلك ، وأن خاتمة السوء تكون بسبب دسيسة باطنة للعبد لا يطلع عليها الناس ؛ إما من جهة عمل سيء ونحو ذلك ، فتلك الخصلة الخفية توجب سوء الخاتمة عند الموت .
وكذلك قد يعمل الرجل عمل أهل النار ، وفي باطنه خصلة خفيه من خصال الخير ، فتغلب عليه تلك الخصلة في آخر عمره ، فتوجب له حسن الخاتمة .
قال عبد العزيز بن أبي رواد : حضرت رجلا عند الموت يلقن الشهادة : لا إله إلا الله ، فقال في آخر ما قال : هو كافر بما تقول ، ومات على ذلك !!
قال : فسألت عنه ، فإذا هو مدمن خمر !!
وكان عبد العزيز يقول اتقوا الذنوب فإنها هي التي أوقعته .
وفي الجملة : فالخواتيم ميراث السوابق ؛ وكل ذلك سبق في الكتاب السابق ، ومن هنا كان يشتد خوف السلف من سوء الخواتيم ، ومنهم من كان يقلق من ذكر السوابق .
وقد قيل : إن قلوب الأبرار معلقة بالخواتيم ، يقولون : بماذا يختم لنا ؟!!
وقلوب المقربين معلقة بالسوابق ، يقولون : ماذا سبق لنا ؟!! ...
وقال سهل التستري : المريد يخاف أن يبتلى بالمعاصي ، والعارف يخاف أن يبتلى بالكفر !!
ومن هنا كان الصحابة ومن بعدهم من السلف الصالح يخافون على أنفسهم النفاق ، ويشتد قلقهم وجزعهم منه ؛ فالمؤمن يخاف على نفسه النفاق الأصغر ، ويخاف أن يغلب ذلك عليه عند الخاتمة فيخرجه إلى النفاق الأكبر ؛ كما تقدم أن دسائس السوء الخلفية توجب سوء الخاتمة " انتهى .
جامع العلوم والحكم (1/57-58) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله : " إن حديث ابن مسعود : (حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع) أي: بين الجنة ، ليس المراد أن عمله أوصله إلى هذا المكان حتى لم يبق إلا ذراع ، لأنه لو كان عمله عمل أهل الجنة حقيقة من أول الأمر ما خذله الله عز وجل ؛ لأن الله أكرم من عبده، عبد مقبل على الله ، ما بقي عليه والجنة إلا ذراع ، يصده الله؟! هذا مستحيل ، لكن المعنى: يعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، حتى إذا لم يبق على أجله إلا القليل زاغ قلبه والعياذ بالله -نسأل الله العافية- هذا معنى حديث ابن مسعود . إذاً: لم يبق بينه وبين الجنة إلا ذراع بالنسبة لأجله ، وإلا فهو من الأصل ما عمل عمل أهل الجنة -نعوذ بالله من ذلك ، نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا- عامل وفي قلبه سريرة خبيثة أودت به إلى أنه لم يبق إلا ذراع ويموت " انتهى من "اللقاء الشهري" (13/14).
وأشار بعض أهل العلم إلى أن المذكور في الحديث قد يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة ، حتى إذا اقترب أجله ساءت خاتمته ، فمات على كفر أو معصية ، لكن هذا نادر ، وهو راجع أيضا إلى خبيئة وبلية يقيم عليها هذا الشخص ، من اعتقاد فاسد أو كبيرة موبقة ، أوجبت سوء خاتمته ، نسأل الله العافية . فيكون الحديث فيه تحذير من الاغترار بالأعمال ، وتوجيه إلى سؤال الله الثبات حتى الممات، فإن القلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء .
قال النووي رحمه الله في "شرح مسلم" : " الْمُرَاد بِالذِّرَاعِ التَّمْثِيل لِلْقُرْبِ مِنْ مَوْته وَدُخُوله عَقِبه , وَأَنَّ تِلْكَ الدَّار مَا بَقِيَ بَيْنه وَبَيْن أَنْ يَصِلهَا إِلَّا كَمَنْ بَقِيَ بَيْنه وَبَيْن مَوْضِع مِنْ الْأَرْض ذِرَاع , وَالْمُرَاد بِهَذَا الْحَدِيث أَنَّ هَذَا قَدْ يَقَع فِي نَادِر مِنْ النَّاس , لَا أَنَّهُ غَالِب فِيهِمْ , ثُمَّ أَنَّهُ مِنْ لُطْف اللَّه تَعَالَى وَسَعَة رَحْمَته اِنْقِلَاب النَّاس مِنْ الشَّرّ إِلَى الْخَيْر فِي كَثْرَة , وَأَمَّا اِنْقِلَابهمْ مِنْ الْخَيْر إِلَى الشَّرّ فَفِي غَايَة النُّدُور , وَنِهَايَة الْقِلَّة , وَهُوَ نَحْو قَوْله تَعَالَى : إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي وَغَلَبَتْ غَضَبِي وَيَدْخُل فِي هَذَا مَنْ اِنْقَلَبَ إِلَى عَمَل النَّار بِكُفْرٍ أَوْ مَعْصِيَة , لَكِنْ يَخْتَلِفَانِ فِي التَّخْلِيد وَعَدَمه ; فَالْكَافِر يُخَلَّد فِي النَّار , وَالْعَاصِي الَّذِي مَاتَ مُوَحِّدًا لَا يُخَلَّد فِيهَا كَمَا سَبَقَ تَقْرِيره . وَفِي هَذَا الْحَدِيث تَصْرِيح بِإِثْبَاتِ الْقَدَر , وَأَنَّ التَّوْبَة تَهْدِم الذُّنُوب قَبْلهَا , وَأَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى شَيْء حُكِمَ لَهُ بِهِ مِنْ خَيْر أَوْ شَرّ , إِلَّا أَنَّ أَصْحَاب الْمَعَاصِي غَيْر الْكُفْر فِي الْمَشِيئَة . وَاَللَّه أَعْلَم " انتهى .
على أن الذي ينبغي أن ننتبه إليه في هذا السياق ، أن في نفس الحديث الذي أشكل عليك حل هذا الإشكال ؛ وذلك أنه لم يتضمن مجرد إثبات القدر ، وعلم الله تعالى السابق في خلقه ، وكتابته لأعمالهم ، وإنما تضمن ، هو وأمثاله من النصوص ، إلى جانب ذلك كله ، إثبات أمره ونهيه ، وأن الله تعالى لا يعذب عباده ، ولا ينعمهم ، على مجرد علمه فيهم ، بل على ما عملت أيديهم ، وكسبت نفوسهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" وَهَذَا الْحَدِيثُ وَنَحْوُهُ فِيهِ فَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا : الْقَدَرُ السَّابِقُ وَهُوَ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ عَلِمَ أَهْلَ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَعْمَلُوا الْأَعْمَالَ وَهَذَا حَقٌّ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ ; بَلْ قَدْ نَصَّ الْأَئِمَّةُ : كَمَالِكِ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَد أَنَّ مَنْ جَحَدَ هَذَا فَقَدَ كَفَرَ ; بَلْ يَجِبُ الْإِيمَانُ أَنَّ اللَّهَ عَلِمَ مَا سَيَكُونُ كُلَّهُ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ وَيَجِبُ الْإِيمَانُ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّهُ كَتَبَ ذَلِكَ وَأَخْبَرَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَكُونَ ...
[ والفصل الثاني ] : أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَعْلَمُ الْأُمُورَ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ ، وَهُوَ قَدْ جَعَلَ لِلْأَشْيَاءِ أَسْبَابًا تَكُونُ بِهَا ؛ فَيَعْلَمُ أَنَّهَا تَكُونُ بِتِلْكَ الْأَسْبَابِ ، كَمَا يَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يُولَدُ لَهُ بِأَنْ يَطَأَ امْرَأَةً فَيُحْبِلَهَا ؛ فَلَوْ قَالَ هَذَا : إذَا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يُولَدُ لِي فَلَا حَاجَةَ إلَى الْوَطْءِ كَانَ أَحْمَقَ ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِمَا يُقَدِّرُهُ مِنْ الْوَطْءِ ، وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يُنْبِتُ لَهُ الزَّرْعَ بِمَا يَسْقِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَيَبْذُرُهُ مِنْ الْحَبِّ ؛ فَلَوْ قَالَ : إذَا عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَذْرِ كَانَ جَاهِلًا ضَالًّا ; لِأَنَّ اللَّهَ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ بِذَلِكَ ...
وَكَذَلِكَ إذَا عَلِمَ أَنَّ هَذَا يَكُونُ سَعِيدًا فِي الْآخِرَةِ وَهَذَا شَقِيًّا فِي الْآخِرَةِ ، قُلْنَا : ذَلِكَ لِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِعَمَلِ الْأَشْقِيَاءِ ؛ فَاَللَّهُ عَلِمَ أَنَّهُ يَشْقَى بِهَذَا الْعَمَلِ ، فَلَوْ قِيلَ : هُوَ شَقِيٌّ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ كَانَ بَاطِلًا ; لِأَنَّ اللَّهَ لَا يُدْخِلُ النَّارَ أَحَدًا إلَّا بِذَنْبِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى : لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ ؛ فَأَقْسَمَ أَنَّهُ يَمْلَؤُهَا مِنْ إبْلِيسَ وَأَتْبَاعِهِ ، وَمَنْ اتَّبَعَ إبْلِيسَ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ تَعَالَى ، وَلَا يُعَاقِبُ اللَّهُ الْعَبْدَ عَلَى مَا عَلِمَ أَنَّهُ يَعْمَلُهُ حَتَّى يَعْمَلَهُ ...
وَكَذَلِكَ الْجَنَّةُ خَلَقَهَا اللَّهُ لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِهِ وَطَاعَتِهِ فَمَنْ قَدَّرَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ يَسَّرَهُ لِلْإِيمَانِ وَالطَّاعَةِ ؛ فَمَنْ قَالَ : أَنَا أَدْخُلُ الْجَنَّةَ سَوَاءٌ كُنْت مُؤْمِنًا أَوْ كَافِرًا ، إذَا عَلِمَ أَنِّي مِنْ أَهْلِهَا كَانَ مُفْتَرِيًا عَلَى اللَّهِ فِي ذَلِكَ ، فَإِنَّ اللَّهَ إنَّمَا عَلِمَ أَنَّهُ يَدْخُلُهَا بِالْإِيمَانِ ، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ إيمَانٌ لَمْ يَكُنْ هَذَا هُوَ الَّذِي عَلِمَ اللَّهُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ ، بَلْ مَنْ لَمْ يَكُنْ مُؤْمِنًا ، بَلْ كَافِرًا ، فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ .
وَلِهَذَا أَمَرَ النَّاسَ بِالدُّعَاءِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِاَللَّهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَسْبَابِ . وَمَنْ قَالَ : أَنَا لَا أَدْعُو وَلَا أَسْأَلُ اتِّكَالًا عَلَى الْقَدَرِ كَانَ مُخْطِئًا أَيْضًا ; لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَ الدُّعَاءَ وَالسُّؤَالَ مِنْ الْأَسْبَابِ الَّتِي يَنَالُ بِهَا مَغْفِرَتَهُ وَرَحْمَتَهُ وَهُدَاهُ وَنَصْرَهُ وَرِزْقَهُ . وَإِذَا قَدَّرَ لِلْعَبْدِ خَيْرًا يَنَالُهُ بِالدُّعَاءِ لَمْ يَحْصُلْ بِدُونِ الدُّعَاءِ ، وَمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ وَعَلِمَهُ مِنْ أَحْوَالِ الْعِبَادِ وَعَوَاقِبِهِمْ فَإِنَّمَا قَدَّرَهُ اللَّهُ بِأَسْبَابِ يَسُوقُ الْمَقَادِيرَ إلَى الْمَوَاقِيتِ ؛ فَلَيْسَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ شَيْءٌ إلَّا بِسَبَبِ ، وَاَللَّهُ خَالِقُ الْأَسْبَابِ وَالْمُسَبَّبَاتِ ...
وَفِي هَذَا الْمَوْضِعِ ضَلَّ طَائِفَتَانِ مِنْ النَّاسِ : " فَرِيقٌ " آمَنُوا بِالْقَدَرِ وَظَنُّوا أَنَّ ذَلِكَ كَافٍ فِي حُصُولِ الْمَقْصُودِ ، فَأَعْرَضُوا عَنْ الْأَسْبَابِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ ، وَهَؤُلَاءِ يَئُولُ بِهِمْ الْأَمْرُ إلَى أَنْ يَكْفُرُوا بِكُتُبِ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَدِينِهِ !!
وَفَرِيقٌ أَخَذُوا يَطْلُبُونَ الْجَزَاءَ مِنْ اللَّهِ كَمَا يَطْلُبُهُ الْأَجِيرُ مِنْ الْمُسْتَأْجِرِ مُتَّكِلِينَ عَلَى حَوْلِهِمْ وَقُوَّتِهِمْ وَعَمَلِهِمْ ، وَكَمَا يَطْلُبُهُ الْمَمَالِيكُ ، وَهَؤُلَاءِ جُهَّالٌ ضُلَّالٌ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَأْمُرْ الْعِبَادَ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ حَاجَةً إلَيْهِ ، وَلَا نَهَاهُمْ عَمَّا نَهَاهُمْ عَنْهُ بُخْلًا بِهِ ؛ وَلَكِنْ أَمَرَهُمْ بِمَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ ، وَنَهَاهُمْ عَمَّا فِيهِ فَسَادُهُمْ ، وَهُوَ سُبْحَانَهُ كَمَا قَالَ : يَا عِبَادِي إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي ...
فَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ نَاظِرًا إلَى الْقَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ ، وَمَنْ طَلَبَ الْقِيَامَ بِالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ مُعْرِضًا عَنْ الْقَدَرِ فَقَدْ ضَلَّ ; بَلْ الْمُؤْمِنُ كَمَا قَالَ تَعَالَى : إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ؛ فَنَعْبُدُهُ اتِّبَاعًا لِلْأَمْرِ وَنَسْتَعِينُهُ إيمَانًا بِالْقَدَرِ ..." انتهى .
مقتطفات من مجموع الفتاوى (8/66) وما بعدها .
والله أعلم .
تعليق