الخميس 4 جمادى الآخرة 1446 - 5 ديسمبر 2024
العربية

حديث الأعمى الذي يحتج به من يتوسل بالأموات

السؤال

مر بي وأنا أقرأ في صحيح الجامع الصغير حديث (1279) (اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي ، اللهم فشفعه في) وقد أشكل علي فهم الحديث ، فهل يكون فيه دليل لمن يتوسلون بالأموات من عبّاد القبور ونحوهم ؟ وكيف يجاب عن هذا الحديث ؟

الجواب

الحمد لله.


أخرج الإمام أحمد وغيره بسند صحيح عن عثمان بن حنيف أن رجلاً ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : ادع الله أن يعافيني . فقال صلى الله عليه وسلم : (إن شئت دعوت لك ، وإن شئت أخّرتُ ذاك ، فهو خير لك. [وفي رواية : (وإن شئتَ صبرتَ فهو خير لك)] ، فقال : ادعهُ. فأمره أن يتوضأ ، فيحسن وضوءه ، فيصلي ركعتين ، ويدعو بهذا الدعاء : اللهم إني أسألك ، وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني توجهتُ بك إلى ربي في حاجتي هذه ، فتقضى لي ، اللهم فشفّعه فيَّ وشفّعني فيه) . قال : ففعل الرجل فبرأ .
وقد أشكل هذا الحديث على بعض الناس وظنوا أن فيه حجة على بعض أنواع التوسل البدعي ، وليس الأمر كذلك .
وقد أجاب عن الإشكال الذي قد يفهم من هذا الحديث كثير من أهل العلم ، وبينوا أنه لا حجة فيه لأحد ممن يرى التوسل البدعي ، سواء كان بالذات أو بالجاه ، فضلا عن التوسل بالأموات ودعائهم من دون الله ، ومن أحسن الردود العلمية المحكمة ما سطره العلامة الشيخ محمد ناصر الدين الألباني في كتابه "التوسل أنواعه وأحكامه" فكان مما قاله رحمه الله تعليقا على هذا الحديث :
"وأما نحن فنرى أن هذا الحديث لا حجة لهم فيه على التوسل بالذات ، بل هو دليل آخر على النوع الثالث من أنواع التوسل المشروع ـ وهو التوسل بدعاء الرجل الصالح ـ لأن توسل الأعمى إنما كان بدعائه صلى الله عليه وسلم ؛ والأدلة على ما نقول من الحديث نفسه كثيرة ، وأهمها :
أولاً: أن الأعمى إنما جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليدعو له ، وذلك قوله : ( ادعُ الله أن يعافيني ) فهو توسل إلى الله تعالى بدعائه ، لأنه يعلم أن دعاءه صلى الله عليه وسلم أرجى للقبول عند الله بخلاف دعاء غيره ، ولو كان قصد الأعمى التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم أو جاهه أو حقه لما كان ثمة حاجة به إلى أن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ، ويطلب منه الدعاء له ، بل كان يقعد في بيته ، ويدعو ربه بأن يقول مثلاً : ( اللهم إني أسألك بجاه نبيك ومنزلته عندك أن تشفيني، وتجعلني بصيراً). ولكنه لم يفعل .
ثانياً : أن النبي صلى الله عليه وسلم وعده بالدعاء مع نصحه له ببيان ما هو الأفضل له ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : (إن شئت دعوتُ ، وإن شئت صبرت فهو خير لك).
ثالثاً : إصرار الأعمى على الدعاء وهو قوله : (فادع) فهذا يقتضي أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا له ، لأنه صلى الله عليه وسلم خيرُ من وَفَى بما وعد ، وقد وعده بالدعاء له إن شاء كما سبق ، فلا بد أنه صلى الله عليه وسلم دعا له ، فثبت المراد ، وقد وجه النبي صلى الله عليه وسلم الأعمى بدافع من رحمته ، وبحرص منه أن يستجيب الله تعالى دعاءه فيه ، وجهه إلى النوع الثاني من التوسل المشروع ، وهو التوسل بالعمل الصالح ، ليجمع له الخير من أطرافه ، فأمره أن يتوضأ ويصلي ركعتين ثم يدعو لنفسه ، وهذه الأعمال طاعة لله سبحانه وتعالى يقدمها بين يدي دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له ، وهي تدخل في قوله تعالى : (وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ) كما سبق .
وعلى هذا ، فالحادثة كلها تدور حول الدعاء – كما هو ظاهر – وليس فيها ذكر شيء مما يزعمون .
رابعاً : أن في الدعاء الذي علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إياه أن يقول : ( اللهم فشفعه في ) وهذا يستحيل حمله على التوسل بذاته صلى الله عليه وسلم ، أو جاهه ، أو حقه ، إذ إن المعنى : اللهم اقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم فيّ ، أي : اقبل دعاءه في أن ترد عليَّ بصري ، والشفاعة لغةً الدعاء ، قال في "لسان العرب" (8/184) : "الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره ، والشافع الطالب لغيره ، يتشفع به إلى المطلوب ، يقال تشفعت بفلان إلى فلان ، فشفعني فيه" انتهى .
فثبت بهذا الوجه أيضاً أن توسل الأعمى إنما كان بدعائه صلى الله عليه وسلم لا بذاته .
خامساً : أن مما علم النبيُّ صلى الله عليه وسلم الأعمى أن يقوله : ( وشفعني فيه ) أي : اقبل شفاعتي ، أي دعائي في أن تقبل شفاعته صلى الله عليه وسلم ، أي دعاءه في أن ترد علي بصري . هذا المعنى الذي لا يمكن أن يفهم من هذه الجملة سواه .
ولهذا ترى المخالفين يتجاهلونها ، ولا يتعرضون لها من قريب أو من بعيد ، لأنها تنسف بنيانهم من القواعد ، وتجتثه من الجذور .
سادساً : إن هذا الحديث ذكره العلماء في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم ودعائه المستجاب ، وما أظهره الله ببركة دعائه من الخوارق والإبراء من العاهات ، فإنه بدعائه صلى الله عليه وسلم لهذا الأعمى أعاد الله عليه بصره ، ولذلك رواه المصنفون في "دلائل النبوة" كالبيهقي وغيره ، فهذا يدل على أن السر في شفاء الأعمى إنما هو دعاء النبي صلى الله عليه وسلم .
فلو كان السر في شفاء الأعمى أنه توسل بجاه النبي صلى الله عليه وسلم وقدره وحقه ، كما يفهم عامة المتأخرين ، لكان من المفروض أن يحصل هذا الشفاء لغيره من العميان الذين يتوسلون بجاهه صلى الله عليه وسلم ، بل ويضمون إليه أحياناً جاه جميع الأنبياء المرسلين ، وكل الأولياء والشهداء والصالحين ، وجاه كل من له جاه عند الله من الملائكة ، والإنس والجن أجمعين ! ولم نعلم ولا نظن أحداً قد علم حصول مثل هذا خلال القرون الطويلة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم إلى اليوم .
وبهذا التوضيح يتبين أن قول الأعمى في دعائه : (اللهم إني أسألك ، وأتوسل إليك بنبيك محمد صلى الله عليه وسلم) إنما المراد به : أتوسل إليك بدعاء نبيك ، أي على حذف المضاف ، وهذا أمر معروف في اللغة ، كقوله تعالى : (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ) يوسف/82 ، أي : أهل القرية وأصحاب العير .
على أنني أقول : لو صح أن الأعمى إنما توسل بذاته صلى الله عليه وسلم ، فيكون حكماً خاصاً به صلى الله عليه وسلم ، لا يشاركه فيه غيره من الأنبياء والصالحين ، وإلحاقهم به مما لا يقبله النظر الصحيح ، لأنه صلى الله عليه وسلم سيدهم وأفضلهم جميعاً ، فيمكن أن يكون هذا مما خصه الله به عليهم ككثير مما صح به الخبر ، وباب الخصوصيات لا تدخل فيه القياسات ، فمن رأى أن توسل الأعمى كان بذاته لله ، فعليه أن يقف عنده ، ولا يزيد عليه كما نقل عن الإمام أحمد والشيخ العز بن عبد السلام رحمهما الله تعالى . هذا هو الذي يقتضيه البحث العلمي مع الإنصاف ، والله الموفق للصواب " انتهى باختصار من "التوسل" ( ص 75 وما بعدها) .
والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب