الحمد لله.
والدليل على نفس السؤال الذي
سأله السائل : هو من الآية نصا ، وليس من ربطنا ، بلا دليل ، كما يزعم ؛ ففي نص
الآية استثناء : (أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ) ، وهذه الآية في أحكام النظر والزينة ،
وليست في أحكام المحرمية ؛ فماذا يطلب السائل من دليل على هذه المسألة بعد ذلك ،
والآية عامة لـ : كل نساء المؤمنين ، مع : كل أبناء البعولة ، ولم تستثن شابا ، أو
شابة .
ثانيا :
عورة المرأة أمام محارمها كالأب والأخ وابن الأخ هي بدنها كله إلا ما يظهر غالبا
كالوجه والشعر والرقبة والذراعين والقدمين ، قال الله تعالى : ( وَلا يُبْدِينَ
زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ
أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي
إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ ) النور/31 .
فأباح الله للمرأة أن تبدي زينتها أمام زوجها ومحارمها ، والمقصود بالزينة مواضعها
، فالخاتم موضعه الكف ، والسوار موضعه الذراع ، والقرط موضعه الأذن ، والقلادة
موضعها العنق والصدر ، والخلخال موضعه الساق .
وقد سبق بيان ذلك بيانا شافيا في جواب السؤال رقم : (113287)
.
جاء في " شرح الخرشي لمختصر خليل " (1/248) :
" عورة الحرة مع الرجل المحرم ، من نسب أو رضاع أو صهر : جميع بدنها إلا الوجه
والأطراف ، وهي ما فوق المنحر ، وهو شامل لشعر الرأس والقدمان والذراعان " انتهى .
وقال الحطاب المالكي رحمه الله :
" قال البساطي : وعورتها ، أي المرأة ، مع محرم من الرجال : ما عدا الوجه وأطراف
القدمين والكوعين والشعر من الرأس وما أشبه ذلك . انتهى . قال القرافي في جامع
الذخيرة : ولا بأس أن ينظر الرجل إلى شعر أم زوجته . وقال في جامع الموطأ في فصل
السنة من الشعر: قال مالك: ليس على الرجل ينظر إلى شعر امرأة ابنه أو شعر أم امرأته
بأس , قال الباجي: قول مالك - رحمه الله تعالى - ليس على الرجل إلخ, يريد - والله
أعلم - على الوجه المباح من نظره إلى ذوات المحارم كأمه وأخته وابنته، ولا خلاف في
ذلك " انتهى من "مواهب الجليل " (2 /182) .
وقال ابن قدامة رحمه الله :
" وَيَحُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَنْظُرَ مِنْ ذَوَاتِ مَحَارِمِهِ إلَى مَا يَظْهَرُ
غَالِبًا ، كَالرَّقَبَةِ وَالرَّأْسِ وَالْكَفَّيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ وَنَحْوِ
ذَلِكَ ، وَلَيْسَ لَهُ النَّظَرُ إلَى مَا يَسْتَتِرُ غَالِبًا، كَالصَّدْرِ
وَالظَّهْرِ وَنَحْوِهِمَا ، قَالَ الْأَثْرَمُ: سَأَلْت أَبَا عَبْد اللَّه عَنْ
الرَّجُلِ يَنْظُرُ إلَى شَعْرِ امْرَأَةِ أَبِيهِ ، أَوْ امْرَأَةِ ابْنِهِ ؟
فَقَالَ: هَذَا فِي الْقُرْآنِ: (وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ) إلَّا لِكَذَا
وَكَذَا .
وَمَنَعَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالضَّحَّاكُ ، النَّظَرَ إلَى شَعْرِ ذَوَاتِ
الْمَحَارِمِ .
وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا، لِقَوْلِ
اللَّهِ تَعَالَى: ( وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ) الْآيَةَ
. وَقَالَتْ سَهْلَةُ بِنْتُ سُهَيْلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا نَرَى
سَالِمًا وَلَدًا، كَانَ يَأْوِي مَعِي وَمَعَ أَبِي حُذَيْفَةَ فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ
، وَيَرَانِي فَضْلًا وَقَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مَا عَلِمْت ،
فَكَيْفَ تَرَى فِيهِ ؟ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - : (أَرْضِعِيهِ) فَأَرْضَعَتْهُ خَمْسَ رَضَعَاتٍ ، فَكَانَ
بِمَنْزِلَةِ وَلَدِهَا . رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ .
وَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ مِنْهَا إلَى مَا يَظْهَرُ غَالِبًا،
فَإِنَّهَا قَالَتْ: يَرَانِي فَضْلًا ، وَمَعْنَاهُ فِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ
الَّتِي لَا تَسْتُرُ أَطْرَافَهَا.
وَرَوَى الشَّافِعِيُّ فِي " مُسْنَدِهِ " عَنْ زَيْنَبَ بِنْتِ أَبِي سَلَمَةَ ،
أَنَّهَا ارْتَضَعَتْ مِنْ أَسْمَاءَ امْرَأَةِ الزُّبَيْرِ قَالَتْ: فَكُنْت
أَرَاهُ أَبًا، وَكَانَ يَدْخُلُ عَلَيَّ وَأَنَا أَمْشُطُ رَأْسِي، فَيَأْخُذُ
بِبَعْضِ قُرُونِ رَأْسِي، وَيَقُولُ: أَقْبِلِي عَلَيَّ .
وَلِأَنَّ التَّحَرُّزَ مِنْ هَذَا لَا يُمْكِنُ ، فَأُبِيحَ كَالْوَجْهِ ، وَمَا
لَا يَظْهَرُ غَالِبًا لَا يُبَاحُ ؛ لِأَنَّ الْحَاجَةَ لَا تَدْعُو إلَى نَظَرِهِ
، وَلَا تُؤْمَنُ مَعَهُ الشَّهْوَةُ وَمُوَاقَعَةُ الْمَحْظُورِ، فَحُرِّمَ
النَّظَرُ إلَيْهِ " انتهى من "المغني" (7/ 98-99) .
فظهر بذلك أن ارتباط الحجاب بالمحرمية ارتباط وثيق لا انفكاك عنه ، فكل من حرم على
المرأة أن تنكحه على التأبيد فهو محرم لها ، يجوز لها أن تنكشف عليه ويخلو بها
ويسافر معها ، وهذا بالإجماع .
جاء في "الموسوعة الفقهية" (18/ 162) .
" حَكَى النَّوَوِيُّ وَغَيْرُهُ الإْجْمَاعَ عَلَى تَحْرِيمِ الْخَلْوَةِ
بِالأْجْنَبِيَّةِ ، وَإِبَاحَةِ الْخَلْوَةِ بِالْمَحَارِمِ.
وَالْمَحْرَمُ: هِيَ كُل مَنْ حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ
بِسَبَبٍ مُبَاحٍ " انتهى .
أما النظر إلى بعض ذوي المحارم بشهوة فحرام بالاتفاق ، قال الحطاب :
" قال الأبي : وأظنه عن النووي: وكل ما أبيح النظر إليه من جميع ما تقدم فإنما هو
بغير شهوة وأما مع الشهوة فممتنع ، حتى نظر الرجل إلى ابنته وأمه .
وقال في جامع الكافي : ولا بأس أن ينظر إلى وجه أم امرأته وشعرها وكفيها، وكذلك
زوجة أبيه وزوجة ابنه ، ولا يجوز ترداد النظر وإدامته إلى امرأة شابة من ذوي
المحارم أو غيرهن إلا عند الحاجة إليه والضرورة في الشهادة ونحوها .
وقال ابن عبد البر في التمهيد : وجائز أن ينظر إلى الوجه والكفين منها كل من نظر
إليها بغير ريبة ولا مكروه ، وأما النظر للشهوة فحرام تأملها من فوق ثيابها بالشهوة
، فكيف بالنظر إلى وجهها مسفرة ؟ " .
انتهى من "مواهب الجليل" (2 /183) .
وعليه : فإن خيفت الفتنة لم يجز النظر ، ومثل زوجة الأب الشابة ، ينبغي أن لا يخلو
بها ابنه الشاب ، درءا للفتنة ، وسدا لبابها .
وانظر جواب السؤال رقم : (5538) .
ثالثا :
قال تعالى : (النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ
أُمَّهَاتُهُمْ) الأحزاب/ 6
فنساؤه صلى الله عليه وسلم أمهات للمؤمنين ، أي: في الحرمة والاحترام ، والإكرام ،
لا في الخلوة والمحرمية . قال ابن كثير رحمه الله :
" أَيْ: فِي الْحُرْمَةِ وَالِاحْتِرَامِ، وَالْإِكْرَامِ وَالتَّوْقِيرِ
وَالْإِعْظَامِ، وَلَكِنْ لَا تَجُوزُ الْخَلْوَةُ بِهِنَّ، وَلَا يَنْتَشِرُ
التَّحْرِيمُ إِلَى بَنَاتِهِنَّ وَأَخَوَاتِهِنَّ بِالْإِجْمَاعِ " .
انتهى من "تفسير ابن كثير" (6/ 380) .
ومن أبين الأدلة من السنة
النبوية على هاتين المسألتين : مسألة وضع الحجاب أمام المحارم ، وعدم وضعه أمام
الأجانب ، ومسألة : أن أمهات المؤمنين في أحكام المحرمية والحجاب : كغيرهن من
النساء ، وأن حرمتهن ، لا تعني نزع الحجاب أمام الأجانب :
حديث عُرْوَةَ أَنَّ عَائِشَةَ أَخْبَرَتْهُ : " أَنَّهُ جَاءَ أَفْلَحُ أَخُو
أَبِي الْقُعَيْسِ يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا بَعْدَ مَا نَزَلَ الْحِجَابُ ، وَكَانَ
أَبُو الْقُعَيْسِ أَبَا عَائِشَةَ مِنْ الرَّضَاعَةِ ، قَالَتْ عَائِشَةُ :
فَقُلْتُ وَاللَّهِ لَا آذَنُ لِأَفْلَحَ حَتَّى أَسْتَأْذِنَ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنَّ أَبَا الْقُعَيْسِ لَيْسَ هُوَ
أَرْضَعَنِي ، وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ ؟
قَالَتْ : عَائِشَةُ فَلَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ، قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ : إِنَّ أَفْلَحَ أَخَا أَبِي الْقُعَيْسِ
جَاءَنِي يَسْتَأْذِنُ عَلَيَّ ، فَكَرِهْتُ أَنْ آذَنَ لَهُ حَتَّى أَسْتَأْذِنَكَ
؟
قَالَتْ : فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ائْذَنِي لَهُ
).
فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّ الرَّجُلَ لَيْسَ هُوَ أَرْضَعَنِي ،
وَلَكِنْ أَرْضَعَتْنِي امْرَأَتُهُ .
قَالَ : ( ائْذَنِي لَهُ ، فَإِنَّهُ عَمُّكِ ؛ تَرِبَتْ يَمِينُكِ !! ) .
قَالَ عُرْوَةُ : فَبِذَلِكَ كَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ : حَرِّمُوا مِنْ
الرَّضَاعَةِ مَا تُحَرِّمُونَ مِنْ النَّسَبِ " .
رواه البخاري (5804) ، ومسلم (1445) .
فانظر : كيف كان متقررا : إن محرمية العم ، تبيح للمرأة أن تأذن له ، ولا تستر عنه ، وهي تستتر عمن سواه ، وكيف استشكلت أم المؤمنين حكم "العم" في الرضاع ، حتى بين لها النبي صلى الله عليه وسلم : أنه عمها ، وأمرها أن تأذن له .
فتحريم أمهات المؤمنين على
المؤمنين حكم خاص ، لا علاقة له بالمحرمية التي نتكلم عنها ، وإلا فلو كن أمهاتٍ
للمؤمنين في المحرمية أيضا لجاز لهن خلع الحجاب أمامهم والخلوة بهم ونحو ذلك من
أحكام المحرمية ، وذلك ما لم يقل به أحد يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في "
منهاج السنة " ( 4 / 369 ) :
" أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَحْرِيمِ نِكَاحِ هَؤُلَاءِ بَعْدَ مَوْتِهِ
عَلَى غَيْرِهِ ، وَعَلَى وُجُوبِ احْتِرَامِهِنَّ ; فَهُنَّ أُمَّهَاتُ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحُرْمَةِ وَالتَّحْرِيمِ ، وَلَسْنَ أُمَّهَاتِ
الْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَحْرَمِيَّةِ ، فَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِ أَقَارِبِهِنَّ
الْخَلْوَةَ بِهِنَّ ، وَلَا السَّفَرَ بِهِنَّ ، كَمَا يَخْلُو الرَّجُلُ
وَيُسَافِرُ بِذَوَاتِ مَحَارِمِهِ. وَلِهَذَا أُمِرْنَ بِالْحِجَابِ " انتهى .
والنصيحة للسائل أن يطلب العلم ، ويعرف مصادره وكتبه الموثوقة ، وأهل العلم الذين يؤخذ عنهم ، قبل أن يعجل بالإنكار ، والخلاف في مسألة ، قبل أن تتوفر لها أدواتها .