جاء في الحديث: "قالَتْ: فقُلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أراك ما تجلِسُ مجلِسًا، ولا تتلو قُرْآنًا، ولا تُصلِّي صلاةً، إلَّا ختَمْتَ بهؤلاءِ الكلِماتِ، قال:( نَعم، مَن قال خيرًا خُتِمَ له طابَعٌ على ذلكَ الخيرِ، ومَن قال شرًّا، كُنَّ له كفَّارةً: سُبحانَكَ وبحمدِكَ، لا إلهَ إلَّا أنتَ، أستغفِرُكَ وأتوبُ إليكَ)، فهل يصح قول هذا الذكر عند فراغي من قراءة القرآن دون أن يكون ذلك في مجلس، كأن أقرأ في غرفة بمفردي؟
الحمد لله.
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: " مَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا قَطُّ ، وَلَا تَلَا قُرْآنًا، وَلَا صَلَّى صَلَاةً إِلَّا خَتَمَ ذَلِكَ بِكَلِمَاتٍ، قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! أَرَاكَ مَا تَجْلِسُ مَجْلِسًا، وَلَا تَتْلُو قُرْآنًا، وَلَا تُصَلِّي صَلَاةً، إِلَّا خَتَمْتَ بِهَؤُلَاءِ الْكَلِمَاتِ؟
قَالَ: نَعَمْ، مَنْ قَالَ خَيْرًا، خُتِمَ لَهُ طَابَعٌ عَلَى ذَلِكَ الْخَيْرِ، وَمَنْ قَالَ شَرًّا كُنَّ لَهُ كَفَّارَةً: سُبْحَانَكَ وَبِحَمْدِكَ، لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أَسْتَغْفِرُكَ وَأَتُوبُ إِلَيْكَ " .
رواه النسائي في "السنن الكبرى" (9 / 123) تحت باب: "مَا تُخْتَم بِهِ تِلَاوَةُ الْقُرْآنِ"، وغيره، وصححه الحافظ ابن حجر في "النكت" (2 / 733)، والشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (7 / 495).
والحديث يشهد له عرف الشرع وعادته في الأمر بختم الأعمال الصالحة بالذكر والاستغفار، مثل ما شرع من الأذكار عقب الصلاة، وكذا الحج؛ كما في قوله تعالى:
فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ البقرة /198 - 199.
قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" ولما كانت هذه الإفاضة، يقصد بها ما ذكر، والمذكورات آخر المناسك، أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والإكثار من ذكره، فالاستغفار للخلل الواقع من العبد، في أداء عبادته وتقصيره فيها، وذكر الله شكر الله على إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة.
وهكذا ينبغي للعبد، كلما فرغ من عبادة، أن يستغفر الله عن التقصير، ويشكره على التوفيق، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة، ومنّ بها على ربه، وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة، فهذا حقيق بالمقت، ورد الفعل، كما أن الأول، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر " انتهى من"تفسير السعدي" (ص 92).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" شرع الاستغفار في خواتيم الأعمال. قال تعالى: ( وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ) قال بعضهم: "أحيوا الليل بالصلاة فلما كان وقت السحر أمروا بالاستغفار"، وفي "الصحيح": ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا انصرف من صلاته استغفر ثلاثا، وقال: اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت ياذا الجلال والإكرام ) وقال تعالى: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ) إلى قوله: ( وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ )، وقد أمر الله نبيه بعد أن بلغ الرسالة، وجاهد في الله حق جهاده، وأتى بما أمر الله به مما لم يصل إليه غيره فقال تعالى: ( إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ) " انتهى من"مجموع الفتاوى" (10 / 89).
وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وأرباب العزائم والبصائر أشد ما يكونون استغفارا عقيب الطاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية، ولا رضيها لسيده.
وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات، وهو أجل المواقف وأفضلها، فقال: ( فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ) ... - ثم ذكر نحوا مما سبق في كلام ابن تيمية - " انتهى من "مدارج السالكين" (1 / 524).
وصيغة الذكر في حديث كفارة المجلس مطابقة لصيغة الذكر في "سورة النصر"، والداعي إليه في الموضعين متناسب، ولذا قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره لسورة "النصر":
" وقد كتبنا حديث كفارة المجلس من جميع طرقه وألفاظه في جزء مفرد، فيكتب هاهنا " انتهى من"تفسير ابن كثير" (8 / 513).
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" وقد عهد أن الأمور الفاضلة تختم بالاستغفار، كالصلاة والحج، وغير ذلك.
فأمر الله لرسوله بالحمد والاستغفار في هذه الحال، إشارة إلى أن أجله قد انتهى، فليستعد ويتهيأ للقاء ربه، ويختم عمره بأفضل ما يجده صلوات الله وسلامه عليه " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 936).
فالخلاصة؛ أنّ الحكمة من هذا الذكر والاستغفار تناسب أن يقوله قارئ القرآن بعد فراغه من التلاوة ولو كان في مجلس منفردا، تداركا لأي تقصير فيها ، وتطلعا لكمال الأجر، وشكرا على هذا الخير، ولم يرد ما يحصره ويقيده بالتلاوة في جماعة من الناس.
والله أعلم.