هل كراهية مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم تؤدي إلى ضلال الشخص، فأنا كنت في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم وكنت لا أرتاح في البقاء فيها فغادرت، ولكن كنت في ضلال، ثم تبت عندما غادرت؟
الحمد لله.
أولا :
سكنى مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الصبر على لأوائها، أي شدتها، فيه فضل عظيم ثابت، ومن ذلك ما روى مسلم (1363) عن سَعْدٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ لَابَتَيِ الْمَدِينَةِ أَنْ يُقْطَعَ عِضَاهُهَا، أَوْ يُقْتَلَ صَيْدُهَا، وَقَالَ: الْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، لَا يَدَعُهَا أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَبْدَلَ اللهُ فِيهَا مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْهُ، وَلَا يَثْبُتُ أَحَدٌ عَلَى لَأْوَائِهَا وَجَهْدِهَا إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا، أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وروى مسلم (1381) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ، وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ، أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ، تُخْرِجُ الْخَبِيثَ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ.
وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا)، ليس عاما في جميع الأزمان.
قال القاضي عِيَاض، رحمه الله: " وَكَأَنَّ هَذَا مُخْتَصّ بِزَمَنِهِ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَصْبِر عَلَى الْهِجْرَة وَالْمُقَام مَعَهُ بِهَا إِلَّا مَنْ ثَبَتَ إِيمَانه.
وَقَالَ النَّوَوِيّ : لَيْسَ هَذَا بِظَاهِرٍ ، لِأَنَّ عِنْد مُسْلِم : " لَا تَقُوم السَّاعَة حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَة شِرَارهَا كَمَا يَنْفِي الْكِير خَبَث الْحَدِيد " وَهَذَا وَاللَّه أَعْلَم زَمَنَ الدَّجَّال. اِنْتَهَى .
قال ابن حجر، تعقيبا على ذلك:
وَيُحْتَمَل أَنْ يَكُون الْمُرَاد كُلًّا مِنْ الزَّمَنَيْنِ ، وَكَانَ الْأَمْر فِي حَيَاته صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ لِلسَّبَبِ الْمَذْكُور ، وَيُؤَيِّدهُ قِصَّة الْأَعْرَابِيّ الْآتِيَة بَعْد أَبْوَاب فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ذَكَرَ هَذَا الْحَدِيث مُعَلِّلًا بِهِ خُرُوج الْأَعْرَابِيّ وَسُؤَاله الْإِقَالَة عَنْ الْبَيْعَة .
ثُمَّ يَكُون ذَلِكَ أَيْضًا فِي آخِر الزَّمَان ، عِنْدَمَا يَنْزِل بِهَا الدَّجَّال فَتَرْجُف بِأَهْلِهَا ، فَلَا يَبْقَى مُنَافِق وَلَا كَافِر إِلَّا خَرَجَ إِلَيْهِ ، كَمَا سَيَأْتِي بَعْد أَبْوَاب أَيْضًا .
وَأَمَّا مَا بَيْن ذَلِكَ : فَلَا!! " انتهى من "فتح الباري"(6/100) .
ثانيا :
لا حرج على من كان من خارج المدينة ، ثم سكن فيها لعمل أو زيارة ، أن يتركها بعد ذلك.
قال الباجي في "المنتقى" (7/190): " قوله صلى الله عليه وسلم: لا يخرج أحد من المدينة رغبة عنها يحتمل أن يريد صلى الله عليه وسلم رغبة عن ثواب الساكن فيها.
وأما من خرج لضرورة شدة زمان ، أو فتنة : فليس ممن يخرج رغبة عنها.
قال القاضي أبو الوليد - رضي الله عنه -: والظاهر عندي أنه إنما أراد به الخروج عن استيطانها إلى استيطان غيرها، وأما من كان مستوطنا غيرها ، فقدم عليها طالبا للقربة بإتيانها، أو مسافرا، فخرج عنها راجعا إلى وطنه، أو غيره من أسفاره؛ فليس بخارج منها رغبة عنها.
وقوله صلى الله عليه وسلم: إلا أبدلها الله خيرا منه : يحتمل أن يريد به أبدلها الله مستوطنا بها خيرا منه، إما بمنتقل ينتقل إليها من غيرها، أو مولود يولد فيها" انتهى.
والحاصل:
إن المدينة إذا لم تكن بلدك، ولا موطنك، ولم يستقر عيشك فيها، ولم يطب لك المقام بها ؛ فلا حرج عليك في ذلك، إن شاء الله ، ولا حرج عليك في الرجوع إلى بلدك، أو مكان إقامتك واستقرارك.
والمدار في ذلك كله على عمل العبد، وسعيه إلى ربه، قبل عظمة الأرض، وحرمة البلد.
وقد روى الإمام مالك في " الموطأ " (4/1117) عن يحيى بن سعيد أن أبا الدرداء كتب إلى سلمان الفارسي : أن هلم إلى الأرض المقدسة ، فكتب إليه سلمان : إن الأرض لا تقدس أحدا وإنما يقدس الإنسان عمله .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(163521).
والله أعلم.