الحمد لله.
من عقيدة أهل السنة والجماعة التي ثبتت بنصوص الوحي، أن العبد في قبره ينعم أو يعذب ويكون هذا للروح والجسد تبع لها، كما سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (10547).
واستشكال هذا الأمر بكون الجسد قد يتحلل وتتبعثر الأشلاء، هذا لا يليق أن يلتفت إليه عبد يؤمن بالله ربا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا رسولا.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما أخبر بهذا، كان لا يخفى عليه أن أجساد الموتى تتحلل وتتبعثر، وكان أيضا لا يخفى على أصحابه ورغم هذا لم يرد عندهم هذا الإشكال، لكمال يقينهم بربوبية الله تعالى، وأنه على كل شيء قدير، وكمال اعترافهم بعجزهم عن الإحاطة بقدرة الله تعالى وتصرفاته في الخلق.
فمن يستشكل عذاب القبر بعد بلي الأجساد، كأنه يتصور أن الله تعالى لا يقدر على ايصال الإحساس إلى أجساد العباد إلا إذا كانت على هيئتها في هذه الدنيا؟! ويغفل أن الله تعالى يتصرف في ملكه كما يشاء، لا يعجزه شيء.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" البرزخ ونعيمه وهو ما بين الدنيا والآخرة، قال تعالى: ( وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ )...
وسمّي عذاب القبر ونعيمه، وأنه روضة أو حفرة نار باعتبار غالب الخلق، فالمصلوب والحريق والغريق وأكيل السباع والطيور: له من عذاب البرزخ ونعيمه قسطه الذى تقتضيه أعماله... حتى لو علق الميت على رؤوس الأشجار في مهاب الرياح، لأصاب جسده من عذاب البرزخ حظه ونصيبه، ولو دفن الرجل الصالح في أتون من النار لأصاب جسده من نعيم البرزخ وروحه نصيبه وحظه، فيجعل الله النار على هذا بردا وسلاما، والهواء على ذلك نارا وسموما، فعناصر العالم ومواده منقادة لربها وفاطرها وخالقها، يصرفها كيف يشاء، ولا يستعصى عليه منها شيء أراده، بل هي طوع مشيئته مذللة منقادة لقدرته، ومن أنكر هذا فقد جحد رب العالمين وكفر به وأنكر ربوبيته" انتهى من "الروح" (ص 213 - 215).
وقال رحمه الله تعالى:
"وهل قياس أمر للبرزخ على ما يشاهده الناس في الدنيا إلا محض الجهل والضلال، وتكذيب أصدق الصادقين، وتعجيز رب العالمين، وذلك غاية الجهل والظلم" انتهى من "الروح" (ص 208).
فالذي يجب على العبد الذي يؤمن بالله ربا، أن يصدق بأخبار الغيب ويكل ما يجهل من كيفيتها إلى علم الله تعالى، موقنا أنه على كل شيء قدير.
قال ابن أبي العز رحمه الله تعالى:
" وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثبوت عذاب القبر ونعيمه لمن كان لذلك أهلا، وسؤال الملكين، فيجب اعتقاد ثبوت ذلك والإيمان به، ولا تتكلم في كيفيته، إذ ليس للعقل وقوف على كيفيته، لكونه لا عهد له به في هذا الدار، والشرع لا يأتي بما تحيله العقول، ولكنه قد يأتي بما تحار فيه العقول. فإن عود الروح إلى الجسد ليس على الوجه المعهود في الدنيا، بل تعاد الروح إليه إعادة غير الإعادة المألوفة في الدنيا.
فالروح لها بالبدن خمسة أنواع من التعلق، متغايرة الأحكام: أحدها: تعلقها به في بطن الأم جنينا. الثاني: تعلقها به بعد خروجه إلى وجه الأرض, الثالث: تعلقها به في حال النوم، فلها به تعلق من وجه، ومفارقة من وجه، الرابع: تعلقها به في البرزخ، فإنها وإن فارقته وتجردت عنه، فإنها لم تفارقه فراقا كليا بحيث لا يبقى لها إليه التفات ألبتة، فإنه ورد ردها إليه وقت سلام المسلم، وورد أنه يسمع خفق نعالهم حين يولون عنه، وهذا الرد إعادة خاصة لا يوجب حياة البدن قبل يوم القيامة، الخامس: تعلقها به يوم بعث الأجساد، وهو أكمل أنواع تعلقها البدن، ولا نسبة لما قبله من أنواع التعلق إليه، إذ هو تعلق لا يقبل البدن معه موتا ولا نوما ولا فسادا، فالنوم أخو الموت، فتأمل هذا يزح عنك إشكالات كثيرة " انتهى من "شرح الطحاوية" (ص 399).
وقال ابن رجب رحمه الله تعالى:
" ومما يدخل في النهي عن التعمق والبحث عنه: أمور الغيب الخبريّة التي أمر بالإيمان بها، ولم يبين كيفيتها، وبعضها قد لا يكون له شاهد في هذا العالم المحسوس، فالبحث عن كيفية ذلك هو مما لا يعني، وهو مما ينهى عنه، وقد يوجب الحيرة والشك، ويرتقي إلى التكذيب...". انتهى من "جامع العلوم والحكم" (2/ 172–173).
وأما ما ورد في السؤال من أن : " الروح تكون في نسمة طائر بالجنة "، فيقال:
أما "النسمة" فهي نفس "الروح" ؛ فروح المؤمن – التي هي نسمته – تكون في "حواصل طير خضر" في الجنة، كما ورد في بعض الأحاديث. وورد في بعضها أن ذلك إنما يكون للشهداء.
والظاهر، والله أعلم: أن الأرواح ليست على حالة واحدة، بل تختلف، وتتفاوت منازلها بحسب حالها.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (89813)، ورقم: (261658)، ورقم: (200530).
والله أعلم.