كيف نفهم الآية 56 من الذاريات، والآية 72 من الأحزاب؟ لأنه في آية الذاريات ذكر أنّ الله خلق البشر ليعبدوا الله، لكن في آية الأحزاب قال: إنّ البشر لم يخلقوا ليعبدوا الله؛ ذلك لأنّ البشر اختاروا أن يعبدوا الله، فتحمّلوا مسؤولية عبادته؟
الحمد لله.
أولًا:
قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ)الذاريات/56-58.
"فأخبر سبحانه أنه خلق الخلق لعبادته، وأرسل جميع الرسل تأمرُ بعبادته وحده".
انظر: "جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية" (ص90).
قال الإمام "ابن القيم" رحمه الله: "لولا التكليف لكان خَلْق الإنسان عبثًا وسُدى، والله يتعالى عن ذلك، وقد نزّه نفسه عنه، كما نزّه نفسه عن العيوب والنقائص، قال تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ، وقال: أَيَحْسِبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى ، قال الشافعي: لا يؤمر ولا يُنهى.
ومعلوم أنّ تَرْك الإنسان كالبهائم مهمَلًا معطَّلًا مضادٌّ للحكمة؛ فإنه خُلِق لغاية كماله، وكماله أن يكون عارفًا بربه، محبًّا له، قائمًا بعبوديته، قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)، وقال: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)، وقال: (ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ).
فهذه المعرفة وهذه العبودية هما غاية الخلق والأمر، وهما أعظم كمال الإنسان، والله تعالى من عنايته به ورحمته له عَرّضه لهذا الكمال، وهيَّأ له أسبابه الظاهرة والباطنة، ومكَّنه منها.
ومدار التكليف على الإسلام والإيمان والإحسان، وهي ترجع إلى شكر النِعم كلها، دقيقها ووضيعها وجليلها منه، وتعظيمه وإجلاله ومعاملته بما يليق أن يعامَل به، فتُذكر آلاؤه، ويُشكر فلا يُكفر، ويُطاع فلا يُعصى، ويُذكر فلا يُنسى.
هذا مع تضمّن التكليف لاتصاف العبد بكل خلق جميل، وإتيانه بكل فعل حسن وقول سديد، واجتنابه لكل خلق سيئ، وترك كل فعل قبيح وقول زور، فتكليفه متضمّن لمكارم الأخلاق، ومحاسن الأفعال، وصدق القول، والإحسان إلى الخليقة، وتكميل نفسه بأنواع الكمالات، وهجر أضداد ذلك، والتنزّه عنها، مع تعريضه بذلك التكليف للثواب الجزيل الدائم، ومجاورة ربه في دار البقاء.
فأيّ الأمرين أليق بالحكمة؟ هذا أو إرساله هَمَلًا كالخيل والبغال والحمير، يأكل ويشرب وينكح كالبهائم؟!
وهل يقتضي كماله المقدّس ذلك؟!
(فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)المؤمنون/116"، انتهى من "شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل" (2/ 334-335).
ثانيًا:
قال تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)الأحزاب/72-73.
الأمانة المذكورة في الآية الكريمة، هي: أداء التكاليف، والعمل بطاعة الله، كما ورد عن "ابن عباس" أنه قال: "الأمانة: الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيما لدين الله ألا يقوموا بها، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها".
وقد ذكر الإمام "ابن كثير" عدة أقوال في الأمانة، ومنها:
1- أنها: الطاعة.
2- أنها: الدين والفرائض والحدود.
3- أنها: الغسل من الجنابة.
4- أنها: الأمانة ثلاثة: الصلاة، والصوم، والاغتسال من الجنابة.
ثم قال: "وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها، بل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف، وقبول الأوامر والنواهي بشرطها، وهو أنه إن قام بذلك أثيب، وإن تركها عوقب، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه، إلا من وفق الله، وبالله المستعان" انتهى من"تفسير ابن كثير" (6/ 488- 489).
ثالثًا:
لا يوجد تعارض بين الآيات الكريمات الواردة في السؤال، ففي آية عرض الأمانة أن الإنسان قبل الأمانة بما فيها من تشريف وتكليف، وهذا اختيار منه لحمل هذه التكاليف، وفي الآية الأولى بين سبحانه الغاية من خلق الخلق جميعًا، وهي: عبادته، وهذه العبادة تحصل من الإنسان اختيارًا لا إجبارًا، فالله سبحانه وتعالى خلقهم للعبادة، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، فمن آمن فقد أدى الأمانة التي اختارها قبل ذلك، ومن كفر فقد خان تلك الأمانة.
كما قال سبحانه: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)الأعراف/172-174.
"ويقول عزّ وجلّ: (أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً) إن كل ميزة تقابلها مسئولية وتكليف وعلى قدر عظم نعم الخالق سبحانه وتعالى على المخلوق تأتي التكاليف بأمور العبودية يقول تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولًا).
إن الأمانة ، كما فسرها كثير من المفسرين : هي تكاليف العبودية لله سبحانه وتعالى، إذن السيادة على الكون، والتكريم بالطاقات والقدرات قوبلت بحمل تكاليف العبودية والاستخلاف في الأرض، (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) وكلما حقق الإنسان صفة العبودية في نفسه لله سبحانه وتعالى، كان أقرب إلى الوفاء بأداء مستلزمات الأمانة وإيفاء العهد والقيام بالدور المنوط به، وكلما ابتعد عن صفات العبودية لله تعالى كان تقصيره وتقاعسه في أداء دوره الذي خلق من أجله"، انتهى من "مباحث في إعجاز القرآن"، د. مصطفى مسلم (ص13).
والله سبحانه علم ما العباد فاعلون، وكتب ذلك سبحانه وبحمده، ولا بد من أن نعلم أن الله تعالى خلق الخلق جميعًا لعبادته، لكن الفرق بين الإنسان وغيره، أن الله تعالى جعل للإنسان اختيارًا وإرادة، إن هو أقبل على الإيمان وفقه، وإن أعرض فسيتحمل عاقبة هذا الإعراض.
هذا، وقد قال بعض العلماء في الآية الأولى، أن معناها: "إلا ليذعنوا ويقروا لي بالعبودية، وقد وقعت منهم جميعهم طوعًا وكرهًا"، انتهى.
وقال بعضهم: "أن الآية خاصة في أهل طاعته من الفريقين الذين وقعت منهم العبادة، فيكون المعنى من وجدت منه العبادة فهو مخلوق لها، ومن لم توجد منه، فليس مخلوقًا لها".
وهناك أقوال أخرى، وهي غلط "ومنشأ الغلط في حمل الفعل (يعبدون) على الوقوع، ثم من حمل العبادة: على العبادة الشرعية، عبادة الطاعة والامتثال، جعل الآية خاصة بالمؤمنين؛ لأنهم هم الذين وقعت منهم عبادة الطاعة دون سواهم، أو جعلها عامة واعتبر توحيد الكفار حال الشدة هو العبادة الواقعة منهم، أو اعتبر إقرارهم بالربوبية هو العبادة الواقعة منهم، ولكن لا تنفعهم. ومن حمل العبادة على العبادة العامة عبادة القهر والخضوع، جعل الآية عامة؛ لأن هذه العبودية العامة واقعة من العموم، وكذا من حمل العبادة على المعرفة.
والصواب: ما قدمناه من أن المراد بالعبادة العبادة الشرعية عبادة الطاعة والامتثال، وأن الفعل (يعبدون) معبر به عن إرادته، لا عن وقوعه، وأن ما وصف بكونه مرادًا بلا وقوع له، فليس المراد به إلا إرادة التكليف به، والأمر به فقط، فليس المراد بقوله: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ: وقوع العبادة؛ بل الأمر بها على وجه الابتلاء. والله الموفق للصواب لا شريك له"، انتهى "مجلة البحوث الإسلامية" (91/ 377 - 378).
وانظر للأهمية: دراسة لقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ، لفضيلة الدكتور: محمد بن عبد الرحمن أبو سيف الجهني، مجلة البحوث الإسلامية: (91/ 327-378).
والله أعلم.