الحمد لله.
أولا:
الغيلان: واحدها غول؛ وهو اسم أطلقته العرب على الجن والشياطين التي كانت العرب تعتقد أنها تظهر للإنسان أثناء سفره في الصحراء والأماكن الخالية لتضله عن طريقه ، وتظهر له بأشكال وأحوال مختلفة.
قال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" الغول: أحد الغيلان، وهي جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، فتتغول تغوّلا؛ أي: تتلون تلونا في صور شتى، وتَغُولُهم؛ أي: تُضلّهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله " انتهى. "النهاية في غريب الحديث" (3 / 396).
ونفي النبي صلى الله عليه وسلم للغول، رواه الإمام مسلم (2222) عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا عَدْوَى، وَلَا طِيَرَةَ، وَلَا غُولَ).
واختلف أهل العلم في توجيه معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لَا غُولَ).
فقيل : هو نفي لوجوده، وأن الجن لا تتشكل للإنسان، وذهب الطحاوي إلى أنه ربما كان موجودا قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم منعت الجن من هذا الظهور والتشكل بعد البعثة، كما منعت من استراق السمع.
قال الطيبي رحمه الله تعالى:
" قال الطحاوي: يحتمل أن الغول قد كان، ثم دفعه الله تعالى عن عباده، وعن بعضهم، هذا ليس ببعيد؛ لأنه يحتمل أنه من خصائص بعثة نبينا صلى الله عليه وسلم، ونظيره منع الشياطين من استراق السمع بالشهاب الثاقب" انتهى من "شرح المشكاة" (9/2981).
والذي عليه كثير من شراح الحديث، أن قوله صلى الله عليه وسلم : ( لَا غُولَ ) ليس نفيا لوجوده، فالجن قد تظهر للإنسان، وهذا ثابت بنصوص صحيحة، كحديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
" وَكَّلَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِحِفْظِ زَكَاةِ رَمَضَانَ؛ فَأَتَانِي آتٍ فَجَعَلَ يَحْثُو مِنَ الطَّعَامِ فَأَخَذْتُهُ، فَقُلْتُ: لَأَرْفَعَنَّكَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَكَرَ الحَدِيثَ -، فَقَالَ: إِذَا أَوَيْتَ إِلَى فِرَاشِكَ فَاقْرَأْ آيَةَ الكُرْسِيِّ، لَنْ يَزَالَ عَلَيْكَ مِنَ اللَّهِ حَافِظٌ، وَلاَ يَقْرَبُكَ شَيْطَانٌ حَتَّى تُصْبِحَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (صَدَقَكَ وَهُوَ كَذُوبٌ ذَاكَ شَيْطَانٌ) رواه البخاري (3275).
وإنما النفي الوارد، هو نفي لقدرة الجن على التلون والتشكل حقيقة، بقصد الإغواء، وهذا التوجيه يؤيده ما رواه ابن ابي شيبة في "المصنف" (16/ 327-328)، قال: حَدَّثنا مُحَمَّد بْنُ فُضَيْلٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ يُسَيْرِ بْنِ عَمْرٍو، قَالَ: ( ذكرت الْغِيلانُ عِنْدَ عُمَر رحمه الله فَقَالَ: إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ شَيْءٍ يَسْتَطِيعُ أن يتغير عَنْ خَلْقِ اللهِ الَّذِي خَلَقَهُ، وَلَكِنْ لَهُمْ سَحَرَةٌ كَسَحَرَتِكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَأَذِّنُوا ).
وصحح إسناده الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" (6/344).
قال الخطابي رحمه الله تعالى:
" قوله: (لَا غُولَ) ليس معناه نفي الغول عينا وإبطالها كونا، وإنما فيه إبطال ما يتحدثون عنها من تغولها، واختلاف تلونها في الصور المختلفة، وإضلالها الناس عن الطريق، وسائر ما يحكون عنها مما لا يُعلم له حقيقة.
يقول : لا تصدقوا بذلك، ولا تخافوها، فإنها لا تقدر عل شيء من ذلك إلاّ بإذن الله عز وجل، ويقال: إن الغيلان سحرة الجن، تسحر الناس وتفتنهم بالإضلال عن الطريق، والله أعلم " انتهى من "معالم السنن" (4/234).
وقال ابن الأثير رحمه الله تعالى:
" وقيل: قوله ( لَا غُولَ ) ليس نفيا لعين الغول ووجوده، وإنما فيه إبطال زعم العرب في تلونه بالصور المختلفة واغتياله، فيكون المعنى بقوله ( لَا غُولَ ) أنها لا تستطيع أن تضل أحدا ... " انتهى من "النهاية في غريب الحديث" (3/396).
وقال الطيبي رحمه الله تعالى:
" أقول: إن (لا) التي لنفي الجنس دخلت على المذكورات، ونفت ذواتها، وهي غير منفية؛ فتوجَّهَ النفيُ إلى أوصافها وأحوالها التي هي مخالفة للشرع؛ فإن العدوى وصفر وهامة والنوء: موجودة ، والمنفي هو ما زعمت الجاهلية إثباتها، فإن نفي الذات لإرادة نفي الصفات أبلغ، لأنه من باب الكناية.
وقريب منه قوله تعالى: ( فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ )؛ فنهاهم عن الموت وهو ليس بمقدورهم، فالمنفي هو حالةٌ، إذا أدركهم الموت لم يجدهم عليها، وهي أن يكونوا على غير ملة الإسلام. فالوجه ما ذهب إليه صاحب النهاية من الوجه الثاني. واختاره الشيخ التوربشتى " انتهى من "شرح المشكاة" (9/2981).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" وهذا الذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو تأثيرها؛ وليس المقصود بالنفي نفي الوجود " انتهى من "القول المفيد" (1/569).
ثانيا:
وبناء على ما سبق، فالمنكر للغيلان؛ إن كان يؤمن بوجود الجن من حيث الأصل؛ لكن ينكر أن يكون لها قدرة على التلون حقيقة، وأنها تؤثر بذلك على الناظر إليها، وإن كانت ربما ظهرت في بعض الصور أحيانا، كما في حديث أبي هريرة: فهذا صحيح، وهو الذي مر في كلام أهل العلم، وهذا الذي تجتمع عليه النصوص.
وأما إن كان ينكر ظهور الجن للإنسان مطلقا، لا سيما بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، فهذا القول، وإن كان ضعيفا مرجوحا؛ فقد قال به من قال من أهل العلم، وتأول فيه معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم؛ ومثل هذا لا يبدع قائله، ولا يضلل؛ فضلا عن أن يكن كافرا بذلك؛ ما دام مؤمنا بوجود الجن، على ما ثبت في الشرع المطهر.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" والكلمة الواحدة يقولها اثنان، يريد بها أحدهما: أعظم الباطل، ويريد بها الآخر محض الحق، والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه، وما يدعو إليه ويناظر عليه " انتهى من "مدارج السالكين" (5/3954).
فالذي ينكر ظهور الجن للإنسان استنادا للحديث السابق، كما مرّ في كلام الطيبي، فهو متأول معذور.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" المتأول الذي قصده متابعة الرسول لا يكفر، بل ولا يفسق إذا اجتهد فأخطأ " انتهى من " منهاج السنة " (5/239).
وأما إن كان ينكر ذلك من باب إنكار وجود عالم الجن، فهذا قول كفري لمعاندته ما ورد في نصوص الوحي من إثبات وجود هذا العالم؛ إلا إن كان جاهلا، فيعلّم.
قال ابن عبد البر:
" قالوا: وإنما الكافر من عاند الحق، لا من جهله؛ وهذا قول المتقدمين من العلماء ومن سلك سبيلهم من المتأخرين " انتهى من "التمهيد" (18/42).
والله أعلم.