بينما كنت أصلي وأقرأ سورة الكافرون، خطر في بالي سؤال، يقول الله سبحانه وتعالى، (قل يا أيها الكافرون)، أي الخطاب للكافرين، وقد بحثت عن المعنى الشامل لكلمة الكافرين، وهي تشمل كل من يكفر بالله، من اليهود أو النصارى، إلخ ، وأيضاً تشمل من لا دين لهم وهم الملحدون، وفي آخر السورة، يقول الله سبحانه وتعالى: (لكم دينكم ولي دين) فكيف يكون الخطاب في هذه الآية لمن لا دين لهم وهم الملحدون، ولا حتى لهم عقيدة يؤمنون بها، ولا أي مرجع يرجعون اليه، أنا مؤمن الحمدلله، ومتأكد من وجود تفسير لهذه الآيات لكن أريد معرفته؟
الحمد لله.
أولاً:
سب نزول الآية كان في كفار قريش، والخطاب في السورة متوجه إليهم، أصالة. ثم يلتحق بهم غيرهم من سائر الكفار، قياسا عليهم، أو بالعموم المعنوي.
فالمراد بالدين في الآية أصالة: دين قريش، كما بينه علماء التفسير في سبب النزول، فإنهم قد طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يعبد آلهتهم عاما ، وهم يعبدون الله تعالى عاما. فنزلت الآية ردًّا عليهم ، وبيانا لحقيقة ما هم عليه ، وأنهم كافرون. فكيف يعبد النبي صلى الله عليه وسلم آلهتهم ؟!
وقد سبق في الموقع بيان ما ذكره المفسرون في سبب نزول السورة مفصلاً، فيحسن الرجوع إليه: (132099).
ومع أنّ هذا هو سبب النزول إلا أنه لا مانع من حمل الآية على العموم ، فيدخل فيها جميع الكافرين ، وما يدينون به .
فالقاعدة المتفق عليها أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
قال الشوكاني رحمه الله:” والحق أن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب” انتهى من “فتح القدير” (1/193).
وقال الشيخ أبو شهبة رحمه الله:
“ذهب الجمهور من العلماء إلى أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”، “المدخل لدراسة القرآن الكريم” (ص156).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
“وإذا ورد العام على سبب خاص: وجب العمل بعمومه؛ لأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، إلا أن يدل دليل على تخصيص العام بما يشبه حال السبب الذي ورد من أجله فيختص بما يشبهها” انتهى من “الأصول من علم الأصول” (ص36).
فالخطاب في السورة عام لبيان المفاصلة مع كل دين يخالف الإسلام.
ثانياً:
كلمة الدين تشمل كل ما يَدين به الإنسان، ويعتقده، فاليهود والنصارى لهم دين، والملحدون كذلك لهم دين ، فالملحد دينه الإلحاد ، بما يعتقده من أنّ الكون جاء من غير خالق، واللادينويون لهم اعتقاد بأنّ الحياة مجردة من القوانين، وأن للإنسان أن يعمل ما يشاء من غير رادع يردعه، فهو يدين، ويعتقد هذا المعتقد، فهذا دينه.
فكل من سلك طريقة ارتضاها لنفسه في الحياة، فهي دينه بالمفهوم العام لكلمة “دين”.
جاء في “الموسوعة الفقهية الكويتية” (1/ 15):
“يطلق لفظ الدين لغةً على معان شتى، فهو من قبيل الألفاظ المشتركة…، ومنها الطريقة، ومن ذلك قوله تعالى: {لكم دينكم ولي دين}” انتهى
وقال الشيخ محمد عبد الله دراز رحمه الله:
“كلمة «الدين» ترد إلى ثلاث استعمالات بحسب الاشتقاق ووجوه التصريف للمعاني جميعها على النحو الآتي:
أولاً: إذا كانت الكلمة من فعل متعد بنفسه، كأن نقول: «دانــه، يـدينــه، ديـنـا: فتأخذ معاني الملك والتصرف والحكم والمحاسبة والمجازاة.
ثانياً: إذا كانت الكلمة من فعل متعـد بـاللام «دان لــه»: فالـديـن هـنـا هـو الخضوع والطاعة والعبادة.
ثالثاً: إذا كانت الكلمة من فعل متعد بالباء: دان به؛ فالدين هنا هو المذهب والطريقة والمعتقد والعادة والسيرة.
وبهذه المحاور الثلاثة لمعاني كلمة «الدين» تتضح بجلاء صورة المعنى الشامل للدين في لغة العرب وفي القرآن الكريم أيضاً” انتهى من “تحرير المفاهيم والمصطلحات” لعبد الوهاب أبو بصل، (ص: 9).
ومن هنا نعلم أنّ المفهوم العام للدين يدخل فيه كل ما يرتضيه الإنسان لنفسه من مسلك في الحياة، وذلك أن تصرفات الإنسان ناتجة عن تصوراته، وهذه التصورات تعتبر دينا له.
فلا إشكال في عموم كلمة الدين في السورة ودخول الملحدين وكل من يخالف دين الإسلام فيها.
ثالثا :
وبعد هذا البيان لمعنى كلمة “الدين” في لغة العرب، والقرآن الكريم، يتبين أن ما ورد في السؤال من أن الملحدين لا دين لهم، وليس لهم عقيدة يؤمنون بها، ولا مرجع يرجعون إليه … فذلك غير صحيح .
لأن للملحدين دينًا، وهو المذهب والطريقة والفلسفة التي اختاروها لأنفسهم، فيما يؤمنون به، أو لا يؤمنون.
ولهم مذهب، وفكرة، وفلسفة: يعتقدون صوابها، ويلتزمون بها. ومن جملة ذلك: أنه ليس للكون رب ولا إله .
ولهم مرجع يرجعون إليه؛ وهذا معنى: “دينهم”.
وفي الحقيقة:
كل من لم يعبد الله تعالى وحده ولم يشرك به شيئا، فإنما هو عبد للشيطان ولهواه .
قال الله تعالى : (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (* وَأَنْ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ ) يس/62 .
وقال تعالى : (أَفَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ) الجاثية/23 .
وقال تعالى (أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً ) الفرقان/43.
والحاصل:
أن السورة الكريمة، سورة (الكافرون): هي إعلان عام بالبراءة من الكافرين، وكفرهم، وترك ما هم عليه من الأديان والأعمال الكفرية، ولو كان مذهبهم: الإلحاد، وعدم الإيمان بـ(إله) من الأصل؛ فإن المسلم بريء منهم ومن كفرهم، معلن بتلك البراءة العامة من الكفر والكافرين؛ موجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفا، وما هو من المشركين.
والله أعلم.