الحمد لله.
لم يرد في صريح الكتاب والسنة الصحيحة نص يدل على إثبات أو نفي زواج السيد المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام ، وإن كان في القرآن الكريم ما يدل على أن الزواج عموماً من هدي المرسلين ، فقد قال سبحانه وتعالى : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً ) الرعد/38 ، فذلك لا يمنع أن يكون بعضهم مستثنى من ذلك ، وهذا الاستثناء كان كمالاً في حقه وفي شريعته ، كما أن زواج الأنبياء ـ عموماً ـ وما أوتوا من الأزواج والذرية ، كان كمالاً لهم .
وقال الله تعالى في بشارته لنبيه زكريا عليه السلام بولده الذي يولد له ، يحي عليه السلام :
( فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ ) آل عمران/39 .
قال القاضي عياض رحمه الله :
" فإن قيل : كيف يكون النكاح وكثرته من الفضائل ، وهذا يحيى بن زكريا عليه السلام قد أثنى الله تعالى عليه أنه كان حصوراً ؛ فكيف يثنى الله عليه بالعجز عما تعده فضيلة ؟! وهذا عيسى ابن مريم عليه السلام تبتل من النساء ، ولو كان كما قررته لنكح ؟
فاعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى ـ بأنه حصور ـ ليس كما قال بعضهم : إنه كان هيوباً ، أو لا ذكر له ؛ بل قد أنكر هذا حذاق المفسرين ونقاد العلماء ، وقالوا هذه نقيصة وعيب ولا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب ، أي : لا يأتيها ، كأنه حصر عنها .
وقيل : مانعا نفسه من الشهوات ، وقيل : ليست له شهوة في النساء .
فقد بان لك من هذا : أن عدم القدرة على النكاح نقص ؛ وإنما الفضل في كونها موجودة ثم قمعها ، إما بمجاهدة كعيسى عليه السلام ، أو بكفاية من الله تعالى كيحيى عليه السلام ، فضيلة زائدة ؛ لكونها مشغلة في كثير من الأوقات ، حاطّة إلى الدنيا، ثم هي في حق من أقدر عليها وملكها وقام بالواجب فيها ولم يشغله عن ربه : درجة علياء ، وهى درجة نبينا صلى الله عليه وسلم ، الذي لم تشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة لتحصينهن وقيامه بحقوقهن واكتسابه لهن وهدايته إياهن . " انتهى .
الشفا بحقوق المصطفى ، للقاضي عياض (188-89) ، وانظر : تفسير ابن كثير (2/38) ، وأيضا : "التحرير والتنوير"، لابن عاشور (13/162-163) .
وقال الشيخ الطاهر ابن عاشور رحمه الله :
" وأما ترك المسيح التزوج فلعله لعارض آخر أمره الله به لأجله ، وليس ترك التزوج من شؤون النبوءة فقد كان لجميع الأنبياء أزواج قال تعالى : ( وجعلنا لهم أزواجاً وذرية ) الرعد/38 " انتهى.
"التحرير والتنوير" (27/425)
وأما ما جاء في رواية " شيفرة دافنشي " لكاتبها " دان براون " ، فليس فيها إلا إثارة لمواضيع حساسة لدى الكنائس الغربية لقصد الإثارة وتحقيق الأرباح فقط ، وليس بغرض البحث العلمي، ولا التحقيق التاريخي، وقد أثارت هذه الرواية جدلاً واسعاً في الأوساط النصرانية ، وكتب الكثيرون منهم ردوداً على ما جاء فيها من تفصيلات تعارضها الكنيسة .
وأما نحن المسلمين فنقول : المسيح عيسى ابن مريم عليهما السلام من أولي العزم من الرسل ، وهو كلمة الله ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأما أنه تزوج أو لم يتزوج ، فأي الأمرين وقع له ، فهو فضل وكمال في حقه ، ولا ينقص من قدره عند الله شيئاً ، صلى الله عليه وعلى إخوانه من الأنبياء والرسل .
والله أعلم .
تعليق