السبت 8 جمادى الأولى 1446 - 9 نوفمبر 2024
العربية

استشكل صفة " العَجب " لله تعالى مع علمه بما سيفعله خلقه تعالى

127605

تاريخ النشر : 25-05-2009

المشاهدات : 47241

السؤال

قد أَشكل عليَّ شيءٌ في العقيدة ، وأريد توضيحه إذا أمكن ، نحن كمسلمين نؤمن أن علم الغيب عند الله عز وجل ، فلا يعلم أحد غيره ما كان ، وما يكون ، وما سيكون ، فكيف نوفِّق بين هذا ، وبين " تعجب الله من فعل الصحابي مع ضيفه عندما قلد صوت الأكل ولم يأكل " ، حيث إن الله يعلم هذا الشيء مسبقاً - سبحانه وتعالى - . أنا يا شيخ يأتيني الشيطان بهذه الوساوس ، وأحاول جاهداً طرده ، وأنا أعلم حقيقة أن ما بي هو سوء فهم ، لا أكثر ، فهلا أجبتني جزاك الله خيراً ؟

الجواب

الحمد لله.

أولاً:

نسأل الله لك الهداية والتوفيق ، ونسأله تعالى أن يرزقك الإخلاص واليقين ، وقد أحسنتَ بسؤالك عما يقلقك ، وسنجيب على سؤالك بما يقطع دابر الشك والوسوسة بإذن الله وتوفيقه ، ونحن نذكر لك الحديث بنصه ، ثم نعقبه بكلام الأئمة الأعلام في معناه .

نص الحديث :

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : إِنِّي مَجْهُودٌ فَأَرْسَلَ إِلَى بَعْضِ نِسَائِهِ فَقَالَتْ : وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ ، ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُخْرَى فَقَالَتْ مِثْلَ ذَلِكَ ، حَتَّى قُلْنَ كُلُّهُنَّ مِثْلَ ذَلِكَ لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا عِنْدِي إِلَّا مَاءٌ ، فَقَالَ : ( مَنْ يُضِيفُ هَذَا اللَّيْلَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ ) فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ : أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ ، فَانْطَلَقَ بِهِ إِلَى رَحْلِهِ فَقَالَ لِامْرَأَتِهِ : هَلْ عِنْدَكِ شَيْءٌ ، قَالَتْ : لَا ، إِلَّا قُوتُ صِبْيَانِي ، قَالَ : فَعَلِّلِيهِمْ بِشَيْءٍ فَإِذَا دَخَلَ ضَيْفُنَا فَأَطْفِئْ السِّرَاجَ وَأَرِيهِ أَنَّا نَأْكُلُ فَإِذَا أَهْوَى لِيَأْكُلَ فَقُومِي إِلَى السِّرَاجِ حَتَّى تُطْفِئِيهِ قَالَ فَقَعَدُوا وَأَكَلَ الضَّيْفُ فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : ( قَدْ عَجِبَ اللَّهُ مِنْ صَنِيعِكُمَا بِضَيْفِكُمَا اللَّيْلَةَ ) .

رواه مسلم ( 2054 ) .

مجهود : أي : أصابني الجهد ، وهو المشقة ، والحاجة وسوء العيش والجوع .

ثانياً:

سبب الإشكال عندك أخي السائل : هو ظنك أن صفة " التعجب " معناها الدهشة من فعل شيء غير متوقع أو غير معلوم ، أو : أن سبب الفعل المتعجَّب منه يخفى على المتعجِّب ، ومن هنا قالوا : " إذا عُرف السبب بطل العجب " ! .

وكلا هذين االمعنيين باطل في حق الله تعالى ، وإنما هذا هو تعجب المخلوق ، والله تعالى ليس كمثله شيء ، فليس سمعه كسمع المخلوق ، وليس بصره كبصر المخلوق ، وليست رحمته كرحمة المخلوق ، وهكذا سائر صفاته ، وأفعاله ، وأسمائه ، ومثله يقال في صفة " العَجَب " ، فليست هي كصفة العجَب عند المخلوق .

والله تعالى يعلم ما كان ، وما يكون ، وما لم يكن لو كان كيف يكون ، وهو خالق الخلق وخالق أفهالهم ، فلا يليق بجلال الله وكماله أن نفهم أن هذه الصفة تستلزم في حقه سبحانه ، ما تستلزمه في حق البشر من الجهل ، والدهش أو الحيرة ، أو ما إلى ذلك ؛ بل هذه الصفة ، وجميع صفاته ، تفهم على معناها الظاهر في اللغة ، مع الاعتقاد أن الله جل جلاله لا يشبه أحدا من خلقه في صفاته ، كما أنه لا يشبههم في ذاته .

وأما معنى الصفة اللائق بالله تعالى فهو أنها بمعنى " تعجب استحسان " لا تعجب اندهاش .

قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين – رحمه الله - :

والعجب هنا : عجبُ استحسان ، استحسن عز وجل صنيعهما من تلك الليلة ، لما يشتمل عليه من الفوائد العظيمة .

" شرح رياض الصالحين " ( 3 / 420 ) .

ثالثاً:

وقد ثبتت صفة " العَجَب " لله تعالى في الكتاب والسنَّة :

1. قال تعالى : ( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) الصافات/ 12 ، وفي قراءة : ( عَجِبْتُ ) .

قال ابن جرير الطبري – رحمه الله - :

قوله : ( بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ ) اختلفت القرَّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرَّاء الكوفة : ( بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخَرُونَ ) بضم التاء من ( عَجِبْتَ ) ، بمعنى : بل عظُم عندي ، وكبر اتخاذهم لي شريكاً ، وتكذيبهم تَنْزيلي ، وهم يسخرون ، وقرأ ذلك عامة قرَّاء المدينة ، والبصرة ، وبعض قرَّاء الكوفة ( عَجِبْتَ ) بفتح التاء ، بمعنى : بل عجبتَ أنت يا محمد ، ويسخرون من هذا القرآن .

والصواب من القول في ذلك أن يقال : إنهما قراءتان مشهورتان في قرَّاء الأمصار ، فبأيتهما قرأ القارئ : فمصيب .

فإن قال قائل : وكيف يكون مصيباً القاريء بهما مع اختلاف معنييهما ؟! قيل : إنهما وإن اختلف معنياهما فكلّ واحد من معنييه صحيح ، قد عجب محمد مما أعطاه الله من الفضل ، وسخر منه أهل الشرك بالله ، وقد عجِب ربنا من عظيم ما قاله المشركون في الله ، وسَخِر المشركونَ مما قالوه .

" تفسير الطبري " ( 21 / 22 ، 23 ) .

2. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( عَجِبَ اللَّهُ مِنْ قَوْمٍ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فِي السَّلَاسِلِ ) .

رواه البخاري ( 2848 ) .

3. عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَعْجَبُ مِنْ الشَّابِّ لَيْسَتْ لَهُ صَبْوَةٌ ) .

رواه أحمد ( 28 / 600 ) وحسنَّه محققوه ، وحسَّنه الهيثمي في " مجمع الزوائد " ( 1 / 270 ) .

قال أبو يعلى الفراء – رحمه الله – تحت باب " إثبات صفة العَجب لربنا تبارك وتعالى - :

اعلم أنَّ الكلام في هذا الحديث كالكلام في الذي قبله – وكان ساق قبله حديثين - ، وأنه لا يمتنع إطلاق ذلك عليه ، وحمْله على ظاهره ؛ إذ ليس في ذلك ما يحيل صفاته ، ولا يخرجها عما تستحقه ؛ لأنا لا نثبت عَجَبَاً هو تعظيم لأمر دَهَمَه استعظمه لم يكن عالماً به ؛ لأنه مما لا يليق بصفاته ، بل نثبت ذلك صفة كما أثبتنا غيرها من صفاته .

" إبطال التأويلات " ( ص 245 ) .

وقال الإمام أبو القاسم الأصبهاني ، قوام السنة ، رحمه الله :

" وقال قوم : لا يوصف الله بأنه يعجب ، لأن العجب ممن يعلم ما لم يكن  يعلم . واحتج مثبت هذه الصفة بالحديث ، وبقراءة أهل الكوفة : ( بل عجبت  ويسخرون ) على أنه إخبار من الله عز وجل عن نفسه "

"الحجة في بيان المحجة" (2/490) .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" وأما قوله : " التعجب استعظام للمتعجب منه " . فيقال : نعم ؛ وقد يكون مقرونا بجهل بسبب التعجب ، وقد يكون لما خرج عن نظائره .

والله تعالى بكل شيء عليم ، فلا يجوز عليه أن لا يعلم سبب ما تعجب منه ; بل يتعجب لخروجه عن نظائره تعظيما له . والله تعالى يعظم ما هو عظيم ; إما لعظمة سببه ، أو لعظمته . فإنه وصف بعض الخير بأنه عظيم . ووصف بعض الشر بأنه عظيم ...

ولهذا قال تعالى : بل عجبتُ ويسخرون على قراءة الضم ، فهنا هو عَجِب من كفرهم مع وضوح الأدلة . وقال النبي صلى الله عليه وسلم للذي آثر هو وامرأته ضيفهما : ( لقد عجب الله ) وفي لفظ في الصحيح : ( لقد ضحك الله الليلة من صنعكما البارحة ) .. "

"مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (6/123-124) .

وينظر: صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة ، للشيخ علوي السقاف (210-213).

وبعد :

فلقد رأيت – أخي السائل – أن العَجَب الذي يكون عن جهل : هو عجب البشر ، وأما عجب الرب تعالى فليس كذلك ، بل هو عن سابق علم ، وإنما أراد الله تعالى استحسان فعلهم ، وتعظيمه بذكره بهذه الصفة ، اللائقة به تبارك وتعالى .

فأما الوسوسة ، فلها داواءان : دواء العلم النبوي الشافي من الجهل والتلبيس الشيطاني ، فشد يديك بكتب أهل السنة ، وأئمة أهل العلم والإيمان .

ودواء آخر نبوي أيضا ، يقطع عنك أبواب الخيالات الفاسدة ، والوساوس المحيرة .

عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :

( يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ مَنْ خَلَقَ كَذَا ، مَنْ خَلَقَ كَذَا ، حَتَّى يَقُولَ : مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟! فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ ) . رواه البخاري (3276) ومسلم (134) .

فهذا دواء نافع ، بإذن الله ، من كل ووسواس فاسد ، أو سؤال لا وجه له ، واسترسال في خيال محير .

نسأل الله أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح .

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: الإسلام سؤال وجواب