السبت 8 جمادى الأولى 1446 - 9 نوفمبر 2024
العربية

هل ثبت حديث أن الصحابة رقصوا ويستدل بذلك على الرقص في حلَق الذِّكر ؟

السؤال

الكثير من المتصوفة يتخذون هذا الحديث دليلاً لرقصهم ودروشتهم ويقولون : إن شيخ الاسلام ابن تيمية وغيره قالوا بصحته ، هذا الحديث في " مسند أحمد " برقم ( 860 ) : قال علي رضي الله عنه : زرت النبي صلى الله عليه وسلم مع جعفر وزيد بن حارثة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لزيد : ( أنت مولاي ) فبدأ زيد يحجل ويقفز على رجل واحدة حول النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لجعفر : ( أما أنت فتشبهني في خَلقي وخُلقي ) فحجل جعفر كذلك ، ثم قال لي : ( أنت مني وأنا منك ) فحجل خلف جعفر . فما تعيقكم على هذا الحديث ؟ هل هو صحيح ؟ وهل يمكن للشخص أن يرقص ويقفز بهذا الشكل لإرضاء الله ؟ .

الجواب

الحمد لله.

أولاً:

الحديث الوارد في السؤال رواه أحمد ( 2 / 213 ) ، ولم يصححه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ، فيما نعلم من كتبه التي بين أيدينا ، أو كتب أصحابه . ثم متى كان هؤلاء الصوفية ـ يا عباد الله ـ يقيمون وزناً لشيخ الإسلام ابن تيمية حتى يقبلوا قوله في الحكم على الأحاديث .

ثانياً:

الحديث المذكور في السؤال فيه علتان :

الأولى : جهالة أحد رواته ، وهو " هانئ بن هانئ " .

قال الحافظ ابن حجر – رحمه الله - :

ذكره ابن سعد في الطبقة الأولى من أهل الكوفة ، قال : وكان يتشيع ، وقال ابن المديني : مجهول ، وقال حرملة عن الشافعي : هانئ ابن هانئ لا يُعرف وأهل العلم بالحديث لا يثبتون حديثه لجهالة حاله .

" تهذيب التهذيب " ( 11 / 22 ) .

والثانية : تدليس أبي إسحاق السبيعي .

قال أبو سعيد العلائي – رحمه الله - :

عمرو بن عبد الله السبيعي أبو إسحاق ، مشهور بالكنية ، تقدم أنه مكثر من التدليس .

" جامع التحصيل في أحكام المراسيل " ( ص 245 ) .

والحديث ضعفه محققو مسند الإمام أحمد ( 2 / 213 ، 214 ) وقالوا :

إسناده ضعيف ، هانئ بن هانئ تقدم القول فيه ، ومثله لا يحتمل التفرد ، ولفظ " الحجل " في الحديث منكر غريب .

انتهى

وللحديث طريق أخرى رواها ابن سعد في " الطبقات " (4 / 35 ، 36 ) عن جعفر بن محمد عن أبيه قال : إن ابنة حمزة لتطوف بين الرجال ... فقام جعفر فحجل حول النبي صلى الله عليه وسلم دار عليه فقال النبي عليه السلام : ( ما هذا ؟ ) قال : شيء رأيت الحبشة يصنعونه بملوكهم .

والحديث ضعيف مرسل ، فمحمد الباقر بن علي زين العابدين لم يدرك أحداً ممن ذُكر في الحديث من الصحابة رضي الله عنهم .

وقد حكم عليه بالإرسال : الزيلعي في كتابه " نصب الراية لأحاديث الهداية " ( 3 / 268 ) ، والألباني في " السلسلة الصحيحة " ( 3 / 256 ) .

ثالثاً:

الحديث رواه البخاري في صحيحه - ( 2552 ) – وليس فيه تلك اللفظة المنكرة التي استدل بها الصوفية على رقصهم .

ونص روايته :

" ... فَاخْتَصَمَ فِيهَا عَلِيٌّ وَزَيْدٌ وَجَعْفَرٌ فَقَالَ عَلِيٌّ : أَنَا أَحَقُّ بِهَا وَهِيَ ابْنَةُ عَمِّي ، وَقَالَ جَعْفَرٌ : ابْنَةُ عَمِّي وَخَالَتُهَا تَحْتِي ، وَقَالَ زَيْدٌ : ابْنَةُ أَخِي ، فَقَضَى بِهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَالَتِهَا وَقَالَ : ( الْخَالَةُ بِمَنْزِلَةِ الْأُمِّ ) وَقَالَ لِعَلِيٍّ : ( أَنْتَ مِنِّي وَأَنَا مِنْكَ ) وَقَالَ لِجَعْفَرٍ : ( أَشْبَهْتَ خَلْقِي وَخُلُقِي ) وَقَالَ لِزَيْدٍ : ( أَنْتَ أَخُونَا وَمَوْلَانَا ) .

انتهى

رابعاً:

على فرض صحة الحديث فليس فيه أنهم رقصوا في حلقة ذِكر لربهم – حاشاهم - ، وإنما فيه أنهم عبَّروا عن فرحهم بثناء النبي صلى الله عليه وسلم بقفزة على رِجل واحدة ، وهو فعل مباح في نفسه ، وإنما الحكم عليه يكون تبعاً لسبب فرحهم ، وحاشا أحداً من العقلاء أن يستدل به على رقص أثناء ذِكره لربه تعالى .

قال البيهقي – رحمه الله - :

وفى هذا - إن صح ! - دلالة على جواز الحجَل ، وهو أن يرفع رجلاً ويقفز على الأخرى من الفرح ، فالرقص الذي يكون على مثاله يكون مثله في الجواز ، والله أعلم .

" السنن الكبرى " للبيهقي ( 10 / 226 ) .

وقال الفقيه الشافعي ابن حجر الهيتمي رحمه الله ، في بيان احتجاج المتصوفة ونحوهم بهذا الحديث على جواز الرقص :

" وتمسكوا أيضا بأنه قال لعلي : ( أنت مني وأنا منك ) ، فحجل . وقال لزيد : ( أنت أخونا ومولانا ) فحجل ... "

قال ابن حجر :

" والجواب : أن هذه كلها أحاديث منكرة ، وألفاظ موضوعة مزورة . ولو سلمت صحتها لم تتحقق حجتها ؛ أي : لأن المحرم هو الرقص الذي فيه تثن وتكسر، وهذا ليس كذلك ". انتهى.

"كف الرعاع عن محرمات اللهو والسماع" (75) .

خامساً :

صرح غير واحد من فقهاء المذاهب رحمهم الله ببدعية ذلك العمل وضلاله ، إن فعل دينا ، وذمه وتسفيه صاحبه إن فعل عادة ولهوا .

سُئل الإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي – رحمه الله - :

ما تقول السادة الفقهاء - أحسن الله توفيقهم - فيمن يسمع الدف والشبانة والغناء ويتواجد ، حتى إنه يرقص ، هل يحل ذلك أم لا ؟ مع اعتقاده أنه محب لله وأن سماعه وتواجده ورقصه في الله ؟! أفتونا مأجورين ، رحمكم الله .

فقال :

الجواب وبالله التوفيق :

إن فاعل هذا مخطئ ، ساقط المروءة ، والدائم على هذا الفعل : مردود الشهادة في الشرع ، غير مقبول القول ، ومقتضى هذا : أنه لا تُقبل روايته لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شهادته برؤية هلال رمضان ، ولا أخباره الدينية .

وأما اعتقاده محبة الله : فإنه يمكن أن يكون محبّاً لله سبحانه ، مطيعًا له ، في غير هذا ، ويجوز أن يكون له معاملة مع الله سبحانه ، وأعمال صالحة في غير هذا المقام .

وأما هذا : فمعصية ولعب ، ذمَّه الله تعالى ورسوله ، وكرهه أهل العلم ، وسموه بدعة ، ونهوا عن فعله ، ولا يُتقرب إلى الله سبحانه بمعاصيه ، ولا يُطاع بارتكاب مناهيه ، ومَن جعل وسيلته الى الله سبحانه معصيته : كان حظه الطرد والإبعاد ، ومن اتخذ اللهو واللعب دينًا : كان كمن سعى في الأرض الفساد ، ومن طلب الوصول إلى الله سبحانه من غير طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنَّته : فهو بعيد من الوصول إلى المراد .

" جزء فيه فتيا فى ذم الشبَّابة والرقص والسماع " لابن قدامة ، مخطوط ( ورقة 2 ) .

وقال الإمام العز ابن عبد السلام ، الفقيه والأصولي الشافعي الكبير ، رحمه الله :

" وأما الرقص والتصفيق : فخِفَّة ورعونة مشبهة لرعونة الإناث ، لا يفعلها إلا راعن أو متصنع كذاب ؛ وكيف يتأتى الرقص المتزن بأوزان الغناء ممن طاش لبه وذهب قلبه ، وقد قال عليه السلام : ( خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ) ، ولم يكن أحد من هؤلاء الذين يُقتدى بهم يفعل شيئا من ذلك ، وإنما استحوذ الشيطان على قوم يظنون أن طربهم عند السماع إنما هو متعلق بالله عز وجل ، ولقد مانوا [ أي : كذبوا ] فيما قالوا ، وكذبوا فيما ادعوا ؛ من جهة أنهم عند سماع المطربات وجدوا لذتين اثنتين : إحداهما لذة المعارف والأحوال المتعلقة بذي الجلال ، والثانية : لذة الأصوات والنغمات والكلمات الموزونات الموجبات للذات النفس التي ليست من الدين ولا متعلقة بأمور الدين ؛ فلما عظمت عندهم اللذتان غلطوا فظنوا أن مجموع اللذة إنما حصل بالمعارف والأحوال ، وليس كذلك بل الأغلب عليهم حصول لذات النفوس التي ليست من الدين بشيء . وقد حرم بعض العلماء التصفيق لقوله عليه السلام : ( إنما التصفيق للنساء ) ، ولعن عليه السلام المتشبهات من النساء بالرجال ، والمتشبهين من الرجال بالنساء .

ومن هاب الإله وأدرك شيئا من تعظيمه لم يتصور منه رقص ولا تصفيق ، ولا يصدر التصفيق والرقص إلا من غبي جاهل ، ولا يصدران من عاقل فاضل .

ويدل على جهالة فاعلهما أن الشريعة لم ترد بهما في كتاب ولا سنة ، ولم يفعل ذلك أحد الأنبياء ، ولا معتبر من أتباع الأنبياء ، وإنما يفعل ذلك الجهلة السفهاء ، الذين التبست عليهم الحقائق بالأهواء .

وقد قال تعالى : وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ ، وقد مضى السلف ، وأفاضل الخلف ولم يلابسوا شيئا من ذلك ، ومن فعل ذلك أو اعتقد أنه غرض من أغراض نفسه ، وليس بقربة إلى ربه : فإن كان ممن يُقْتدى به ، ويعتقد أنه ما فعل ذلك إلا لكونه قربة : فبئس ما صنع ، لإيهامه أن هذا من الطاعات ، وإنما هو من أقبح الرعونات " انتهى .

" قواعد الأحكام في مصالح الأنام " (2/349-350) ط مؤسسة الريان .

وسُئل علما اللجنة الدائمة :

عن حكم الإسلام فيمن يذكرون الله وهم يتمايلون يمينًا وشمالًا في حالة قفز ، وفي جماعة ، وفي صوت عالٍ ؟ .

فأجابوا :

لا يجوز ؛ لأنه بهذه الكيفية بدعة محدثة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ) .

الشيخ عبد العزيز بن باز ، الشيخ عبد الرزاق عفيفي ، الشيخ عبد الله بن غديان ، الشيخ عبد الله بن قعود .

" فتاوى اللجنة الدائمة " ( 2 / 529 ) .

فالخلاصة :

أن الحديث الوارد في السؤال ضعيف لا يصح ، والشاهد المذكور لا يصلح لتحسينه ؛ لوجود راوٍ مجهول في الحديث الأول ، وأن شيخ الإسلام ابن تيمية لم يصححه ، وأنه لو صحَّ فليس فيه دليل على الرقص في العبادة ، بل فعل ذلك بدعة منكرة قبيحة لا يليق بعاقل أن ينسبها لدين الله تعالى .

والله أعلم

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب