الحمد لله.
أولا :
لا نظن أن مثل هذا السؤال يرد إلا بسببين اثنين :
السبب الأول : عدم الاطلاع على أساليب اللغة العربية ، ولا نقول " عدم العلم " ، إذ يكفي الاطلاع اليسير على اللغة العربية لمعرفة كم هو بعيد عن أساسيات اللغة العربية هذا الذي يؤمن بمثل هذه الشبهات الركيكة .
والسبب الثاني : قياس القرآن الكريم الذي تواتر لفظه ومعناه ونسبته إلى رب العزة جل وعلا على الكتب المحرفة التي – لو فرضنا ثبوتها – فإنما ثبتت من كلام الحواريين الذين جمعوها وشرحوا فيها بلغتهم ما سمعوه من الأنبياء ، فهي ـ في أعلى تقدير لها ـ ككتب السيرة لدى المسلمين ، بل لا تبلغ ذلك إذا سلَّطنا مقياس النقد ، والدراسة التوثيقية عليها ؛ فليست منقولة بنص كلام الأنبياء ، فضلا عن أن تكون من كلام الله سبحانه وتعالى .
ينظر : " الجواب الصحيح " (3/21-22)
أما القرآن الكريم فهو كلام الله عز وجل المنقول إلينا
بالتواتر بنصه وحرفه ومعناه ، ليس اجتهاد بشر ، ولا رواية راو ، ولا حكاية حاك ،
وإنما هو نقل الكافة عن الكافة عن رب العزة جل وعلا ، فلا يمكن أن يقع فيه مثل هذا
التناقض الصريح .
بل إذا فرضنا – جدلا – أن القرآن ليس كلام الله بل كلام بشر : فيبعد أن يخطئ واحد
من البشر هذا الخطأ الفادح ، والتناقض الظاهر وهو يدَّعي أن هذا الكتاب هو معجزته
التي تحدى بها قومه .
ثانيا :
أما الجواب عن ما ورد في الآيات فهو واضح جدا ، ويسير على من يملك أساسيات اللغة
العربية ، ويطلع على شيء من لسانها ، ولتوضيح ذلك نضرب هذا المثال السهل والقريب
للفهم إن شاء الله .
أرأيت لو أن رجلا ذهب في سفر للنزهة والسياحة لمدة ثمانية أيام ، ثم لما عاد إلى
أهله وشرع في حكاية قصتها عليهم ، وإخبارهم عنها فقال :
" لقد كانت ثمانية أيام جميلة ، قضينا فيها وقتا ممتعا ، وما أظن أن الذاكرة ستنسى
شيئا من تلك الأيام ، وخاصة يوم البداية ، أو قال في نفس السياق ، أو في سياق آخر :
لقد كان يوم الجمعة ـ يعني : أحد هذه الأيام ـ يوما جميلا ، أو قال : لقد كان أول
يوم يوما رائعا " ، أو ما أشبه ذلك من الكلام . ؛ هل يتهم أحد هذا المتكلم بالتناقض
وإيقاع السامعين في الحيرة حول حقيقة عدد تلك الأيام ؟
لا نظن أن عاقلا يقول ذلك أبدا .
وهكذا ينبغي أن يقال فيما ورد في القرآن الكريم .
فقد صرح القرآن الكريم أن أيام العذاب التي أهلك الله فيها قوم عاد كانت ثمانية
أيام ، وذلك
في قوله عز وجل : ( وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ .
سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى
الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ ) الحاقة/6-7.
وجاء في القرآن الكريم ذكر مجرد لهذه الأيام بصيغة الجمع ، من غير النص على العدد ،
وذلك في قوله تعالى : ( فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ
الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ
الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا
يَجْحَدُونَ . فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ
لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ
أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ ) فصلت/15-16.
فقوله : ( أيام نحسات ) لا ينافي بوجه من الوجوه تحديدها بعدد ؛ لأن كلمة ( أيام )
جمع ، والجمع يصدق على الثمانية المصرح بها في آية أخرى .
وأما قوله تعالى : ( كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ . إِنَّا
أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ )
القمر/18-19. فيوم النحس هو اليوم الذي بدأ فيه العذاب ، وكان مقدمة لثمانية أيام
مهلكة لقوم عتوا في الأرض واستكبروا وقالوا من أشد منا قوة ، ولذلك لم يقل الله عز
وجل ( في يوم نحس واحد ) وإنما قال : ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ ) ليؤكد
استمرار النحس والهلاك إلى ثمانية أيام يهلك فيها هؤلاء المستكبرون الظالمون .
يقول ابن كثير رحمه الله :
" قوله : ( فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ ) أي : متتابعات . ( سَبْعَ لَيَالٍ
وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا ) الحاقة/7، كقوله : ( فِي يَوْمِ نَحْسٍ
مُسْتَمِرٍّ ) القمر/19، أي : ابتُدِئوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم ، واستمر بهم
هذا النحس سبع ليال وثمانية أيام حتى أبادهم عن آخرهم ، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب
الآخرة " انتهى.
" تفسير القرآن العظيم " (7/169) .
ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" أريد بـ ( يَوْمِ نَحْسٍ ) أول أيام الريح التي أرسلت على عاد " انتهى.
" التحرير والتنوير " (27/185) . وينظر : " مفاتيح الغيب " (29/41) .
والله أعلم .
تعليق