الحمد لله.
أولا :
يقول الله عز وجل : ( وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ) الأنعام/ 18
ويقول سبحانه : ( قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) الرعد/ 16
ويقول سبحانه : ( قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ) ص/ 65
والقهار صيغة مبالغة من القاهر اسم فاعل ، وهو " الذي يقهر كلّ شيء فيغلبه ويصرفه لما يشاء كيف يشاء ، فيحيي خلقه إذا شاء ، ويميتهم إذا شاء ، لا يغلبه شيء ، ولا يقهره "
"تفسير الطبري" (17 /52) .
فالَّذي يقهر جميع الأشياء هو الواحد الَّذي لا نظير له ، وهو الَّذي يستحقّ أن يُعبد وحده كما كان قاهرًا وحده .
يقهر بسلطانه كل شىء ، فتستجيب السماوات والأرض لقهره ، فلا موجود إلا وهو مسخر تحت قهره وقدرته ، عاجز في قبضته .
فهو الغالب على جميع الخلائق ، الذي يعلو في قهره وقوته فلا غالب له ولا منازع له ، بل كل شيء تحت قهره وسلطانه .
قال البيهقي رحمه الله : " القهار هو القاهر على المبالغة ، وهو القادر ، فيرجع معناه إلى صفة القدرة التي هي صفة قائمة بذاته ، وقيل هو الذي قهر الخلق على ما أراد " انتهى .
"الاعتقاد" (ص56)
" وقَالَ الْحَلِيمِيُّ : الَّذِي يَقْهَرُ وَلا يُقْهَرُ بِحَالٍ . وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : هُوَ الَّذِي قَهَرَ الْجَبَابِرَةَ مِنْ عُتَاةِ خَلْقِهِ بِالْعُقُوبَةِ ، وَقَهَرَ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ بِالْمَوْتِ " .
"الأسماء والصفات" - للبيهقي (1 /164)
وقال ابن منظور رحمه الله :
" والقَهَّارُ من صفات الله عز وجل ، قال الأَزهري : والله القاهرُ القَهّار قَهَرَ خَلْقَه بسلطانه وقدرته وصَرَّفهم على ما أَراد طوعاً وكرهاً ، والقَهَّار للمبالغة . وقال ابن الأَثير : القاهر هو الغالب جميع الخلق " انتهى .
"لسان العرب" (5 /120)
وإلى ذلك المعنى أشار ابن القيم رحمه الله ، بقوله في قصيدته النونية :
وكذلك القهار من أوصافه ... فالخلق مقهورون بالسلطان
لو لم يكن حيا عزيزا قادرا ... ما كان من قهر ومن سلطان
ثانيا :
القهر في أوصافه سبحانه ، ليس مرادفا للانتقام من أعدائه ، وليس معناه معنى تعذيبب العصاة ، حتى يقال إنه لا يقهر إلا الظالمين المتغطرسين ، كما قال هذا القائل ؛ بل هذا خطأ محض ؛ فإن قهره للظالمين سبحانه ، هو لون من ألوان قهره لخلقه ، لكنه ليس مقيدا بذلك ، بل قهره عام لخلقه جميعا ، من أطاعه ومن عصاه ، لأن ذلك من مقتضى ربوبيته لخلقه ، واقتداره عليهم ، وتمام سلطانه وقوته سبحانه ، وهذا أيضا من دلائل انفراده بالألوهية لعباده سبحانه .
قال ابن جرير رحمه الله في تفسير قوله تعالى : (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ) (11/288) :
" ويعني بقوله : "القاهر" ، المذلِّل المستعبد خلقه ، العالي عليهم . وإنما قال : " فوق عباده" ، لأنه وصف نفسه تعالى ذكره بقهره إياهم . ومن صفة كلّ قاهر شيئًا أن يكون مستعليًا عليه .
فمعنى الكلام إذًا : والله الغالب عبادَه ، المذلِّ لهم ، العالي عليهم بتذليله لهم ، وخلقه إياهم ، فهو فوقهم بقهره إياهم ، وهم دونه " انتهى .
وقال ابن القيم رحمه الله :
" القهار لا يكون إلا واحدا ويستحيل أن يكون له شريك ، بل القهر والوحدة متلازمان ؛ فالملك والقدرة والقوة والعزة كلها لله الواحد القهار ، ومن سواه مربوب مقهور ، له ضد ومناف ومشارك ، فخلق الرياح وسلط بعضها على بعض تصادمها وتكسر سورتها وتذهب بها ، وخلق الماء وسلط عليه الرياح تصرفه وتكسره ، وخلق النار وسلط عليها الماء يكسرها ويطفئها ، وخلق الحديد وسلط عليه النار تذيبه وتكسر قوته ، وخلق الحجارة وسلط عليها الحديد يكسرها ويفتتها ، وخلق آدم وذريته وسلط عليهم إبليس وذريته ، وخلق إبليس وذريته وسلط عليهم الملائكة يشردونهم كل مشرد ويطردونهم كل مطرد ...
فاستبان للعقول والفطر أن القاهر الغالب لذلك كله واحد ، وأن من تمام ملكه إيجاد العالم على هذا الوجه ، وربط بعضه على بعض ، وإحواج بعضه إلى بعض ، وقهر بعضه ببعض ، وابتلاء بعضه ببعض " انتهى .
"طريق الهجرتين" (ص 233)
وقال السعدي رحمه الله :
" كل مخلوق فوقه مخلوق يقهره ، ثم فوق ذلك القاهر قاهر أعلى منه ، حتى ينتهي القهر للواحد القهار ، فالقهر والتوحيد متلازمان متعينان لله وحده " انتهى .
"تفسير السعدي" (ص 415)
وبهذا يزول الإشكال في مرض الأطفال وموتهم ، وما يحدث من المحن والابتلاءات للعبيد ؛ فإن ذلك ليس ملازما للانتقام ، ولا يعني أن الله تعالى يذللهم بذلك ، أو يعذبهم به ، بل هذا من تمام قدرته وسلطانه في خلقه ، وهو سبحانه حكيم ، لا يضع شيئا إلا في موضعه الذي يلائمه : ( لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ ) ؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية في معنى ذلك : " لَا لِمُجَرَّدِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ ، بَلْ لِكَمَالِ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَحِكْمَتِهِ ؛ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ، وَهُوَ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ الْوَالِدَةِ بِوَلَدِهَا ، وَقَدْ أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ " انتهى من " مجموع الفتاوى" (8/79) .
وحينئذ يتبين لنا أنه لا إشكال في ذلك ، فالقهر ليس خاصا بالعصاة والظالمين ، وكذلك المرض والابتلاء ليس كله انتقاما وعذابا لمن نزل به من الخلق ، فقد يبتلي الله تعالى عبده بالمرض لا ليذله ، ولكن ليرفعه ، وقد يبتليه بالفقر لا ليحوجه ، ولكن ليغنيه .
وقد روى الترمذي (2398) وصححه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ : ( الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ ) .
صححه اللباني في "صحيح الترمذي" .
وروى ابن ماجة (4024) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ قَالَ الْأَنْبِيَاءُ . قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَنْ ؟ قَالَ : ( ثُمَّ الصَّالِحُونَ ، إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ أَحَدُهُمْ إِلَّا الْعَبَاءَةَ يُحَوِّيهَا ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالرَّخَاءِ ) صححه الألباني في "صحيح ابن ماجة" .
وينظر لمعرفة الحكمة من ابتلاء الأطفال بالأمراض في الدنيا : جواب السؤال رقم : (13610) ، (150016) .
ثالثا :
لا إشكال ولا حيرة إذا ، في أن الله تعالى واحد قهار ، قوي جبار ، عظيم ، كبير ، متكبر ، متعال ، إلى آخر أسماء عظمته ، ونعوت جلاله ، لا إشكال في ذلك كله مع أن الله تعالى أرحم الراحمين ، وأحكم الحاكمين ، بر رؤوف رحيم ، غفار تواب ، حليم ، صبور ، شكور ، سبحانه ؛ بل هذا أيضا من تمام وحدانيته وسلطانه سبحانه ، فهو قاهر قوي غالب لخلقه أجمعين ، ولا يخرج أحد من قبضته وسلطانه ، ومع قوته سبحانه : حليم لا يعجل ، يمهل عباده ، ولا يعاجلهم بانتقامه ، مع قدرته عليه ، يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويسبط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل ، يفرح بتوبة من تاب إليه وأناب ، ويحلم عمن خرج شرعه ، ويصبر على ما يراه من أذى خلقه وعصيانهم وشركهم وسبهم لربهم ، بأن يقولوا إن له زوجة أو ولدا ، أو شريكا في سلطانه ، سبحانه ؛ فإذا ما أنزل ببعض عباده عذابا ، فإنما أنزله بمن يستحقه ، وأنزل به ما استوجبه العباده بعصيانه وذنبه ، ومع ذلك يعفو عن كثير سبحانه ؛ لكنه عفو القادر المقتدر ، لا عفو الضعيف المهقور ، جل جلاله .
قال سبحانه : ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ) الحجر/49-50 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" أي: أخبرهم خبرا جازما مؤيدا بالأدلة، أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ فإنهم إذا عرفوا كمال رحمته، ومغفرته سَعَوا في الأسباب الموصلة لهم إلى رحمته وأقلعوا عن الذنوب وتابوا منها، لينالوا مغفرته.
ومع هذا فلا ينبغي أن يتمادى بهم الرجاء إلى حال الأمن والإدلال، فنبئهم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الألِيمُ أي: لا عذاب في الحقيقة إلا عذاب الله الذي لا يقادر قدره ولا يبلغ كنهه نعوذ به من عذابه، فإنهم إذا عرفوا أنه لا يعذب عذابه أحد ولا يوثق وثاقه أحد حذروا وأبعدوا عن كل سبب يوجب لهم العقاب، فالعبد ينبغي أن يكون قلبه دائما بين الخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، فإذا نظر إلى رحمة ربه ومغفرته وجوده وإحسانه، أحدث له ذلك الرجاء والرغبة، وإذا نظر إلى ذنوبه وتقصيره في حقوق ربه، أحدث له الخوف والرهبة والإقلاع عنها " انتهى من " تفسير السعدي" (431) .
راجع لأهمية معرفة أسماء الله الحسنى جواب السؤال رقم : (4043)
تعليق