الحمد لله.
مواضع عظيم خلق الله عز وجل لكل من البحرين، العذب والمالح، في القرآن
وردت في القرآن الكريم أربع آيات كريمات تذكر عظيم خلق الله عز وجل لكل من البحرين، العذب والمالح، وأنهما من عجيب آياته التي أبدعها سبحانه في هذا الكون، وهذه الآيات هي:
- وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا الفرقان/53.
- ويقول عز وجل: أَمَّنْ جَعَلَ الأرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ النمل/61.
- ويقول سبحانه: وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ فاطر/12.
- ويقول جل وعلا: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ. بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ. فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ الرحمن/19-21.
تفسير (مرج البحرين يلتقيان)
الذي رأيناه عند أكثر أصحاب كتب التفسير أن المقصود بالبحرين هما النوعان المشهوران من المياه الموجودة على وجه الأرض:
- النوع الأول: الأنهار العذبة.
- والنوع الثاني: البحار المالحة.
والدليل على هذا التفسير قوله تعالى – في وصف البحرين -: هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ
فالدليل ينصر ما ذهب إليه الأكثرون، خلافا لمن قال هما بحران: بحر في السماء، وبحر في الأرض، أو بحر فارس والروم، أو بحر المشرق والمغرب، أو غيرها من الأقوال الغريبة التي لا يصدق عليها أن أحدها عذب فرات، والآخر ملحٌ أجاج.
ما هو البرزخ المذكور بين البحرين الملتقيين؟
وأما البرزخ المذكور بين البحرين في هذه الآيات، فللعلماء فيه قولان:
- التفسير الأول: أن المقصود بالبرزخ الحاجز بين البحرين (الأنهار والبحار) هو الأراضي الواسعة التي تفصل الأنهار عن البحار، بحيث لا تختلط المياه فيهما، بل لكل منهما مجراه ومستقره الذي يستقل به عن الآخر.
وهذا هو التفسير الظاهري الذي وجدناه عند أكثر المفسرين. يقول الحافظ ابن كثير رحمه الله:
“ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا أي: بين العذب والمالح، برزخا أي: حاجزاً، وهو اليَبَس من الأرض، وَحِجْرًا مَحْجُورًا أي: مانعاً أن يصل أحدهما إلى الآخر ” انتهى من ” تفسير القرآن العظيم ” (6/117)
ويقول أيضا رحمه الله:
” قوله: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ قال ابن عباس: أي: أرسلهما. وقوله: (يلتقيان) قال ابن زيد: أي: منعهما أن يلتقيا، بما جعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما. والمراد بقوله: (البحرين) الملح والحلو، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس.
بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لا يَبْغِيَانِ أي: وجعل بينهما برزخا، وهو: الحاجز من الأرض، لئلا يبغي هذا على هذا، وهذا على هذا، فيفسد كل واحد منهما الآخر، ويزيله عن صفته التي هي مقصودة منه ” انتهى من ” تفسير القرآن العظيم ” (7/492)
ويقول العلامة السعدي رحمه الله:
” المراد بالبحرين: البحر العذب، والبحر المالح، فهما يلتقيان كلاهما، فيصب العذب في البحر المالح، ويختلطان ويمتزجان، ولكن الله تعالى جعل بينهما برزخا من الأرض، حتى لا يبغي أحدهما على الآخر، ويحصل النفع بكل منهما، فالعذب منه يشربون وتشرب أشجارهم وزروعهم، والملح به يطيب الهواء ويتولد الحوت والسمك واللؤلؤ والمرجان، ويكون مستقرا مسخرا للسفن والمراكب ” انتهى من ” تيسير الكريم الرحمن ” (ص/830)
- التفسير الثاني: أن بين البحرين، العذب والفرات، حاجزا لا يظهر للعيان، خلقه الله بقدرته، يمنع به اختلاط الماء العذب بالماء المالح رغم التقاء الماءين في نهاية مصب الأنهار، نقله القرطبي عن ابن عباس، وعزاه السيوطي لرواية عبد بن حميد عن قتادة، انظر ” الدر المنثور ” (6/371)
قال الإمام القرطبي رحمه الله:
” وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً مانعا من قدرته ؛ لئلا يختلط الأجاج بالعذب. وقال ابن عباس: سلطانا من قدرته، فلا هذا يغير ذاك، ولا ذاك يغير هذا، والحجز المنع ” انتهى من ” تفسير القرطبي ” (13/222)
ويقول العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله:
” وهذا الحاجز هو اليبس من الأرض الفاصل بين الماء العذب، والماء الملح على التفسير الأول.
وأما على التفسير الثاني: فهو حاجز من قدرة الله غير مرئي للبشر ” انتهى من ” أضواء البيان ” (6/66)
ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله:
” جعل الحاجز بين البحرين من بديع الحكمة، وهو حاجز معنوي حاصل من دفع كلا الماءين أحدهما الآخر عن الاختلاط به، بسبب تفاوت الثقل النسبي لاختلاف الأجزاء المركب منها الماء الملح والماء العذب.
فالحاجز حاجز من طبعهما، وليس جسما آخر فاصلا بينهما ” انتهى من ” التحرير والتنوير ” (20/13)
ويقول الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:
” وقال بعض أهل العلم: بل البرزخ أمرٌ معنوي يحول بين المالح والعذب أن يختلط بعضهما ببعض.
وقالوا: إنه يوجد الآن في عمق البحار عيونٌ عذبة تنبع من الأرض، حتى إن الغواصين يغوصون إليها ويشربون منها كأعذب ماء، ومع ذلك لا تفسدها مياه البحار، فإذا ثبت هذا فلا مانع من أن نقول بقول علماء الجغرافيا وقول علماء التفسير، والله على كل شيءٍ قدير ” انتهى من ” لقاء الباب المفتوح ” (لقاء رقم/7)
ويقول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله:
” البرزخ: إما عازل بينهما، وإما حاجز بينهما من الأرض، وهذا من قدرة الله سبحانه وتعالى، حيث إن هذه البحار تتجاور ويلتقي بعضها ببعض ولا يؤثر بعضها على بعض، لا المالح ينقلب إلى عذب، ولا العذب ينقلب إلى مالح، بل كل منهما يبقى بخصوصياته ” انتهى من ” مجموع فتاوى فضيلة الشيخ صالح بن فوزان ” (1/179)
ولا مانع من اختيار كلا القولين في تفسير الآية، إذ يصدق كل منهما ولا تعارض بينهما، فالحاجز يصدق على اليابسة التي فصلت بين الأنهار والبحار، ويصدق على الحاجز المعنوي (فرق الكثافة) الذي يتحدث عنه علماء البحار اليوم، وهذا من اختلاف التنوع وليس من اختلاف التضاد.
يقول الدكتور حسين الحربي:
” النوع الأول من الخلاف، وهو ما إذا كان جميع الأقوال محتملة في الآية، ونصوص القرآن والسنة شاهدة لكل واحد منها… – وذكر أمثلة – فمثل هذا الخلاف محتمل، وكل الأقوال فيه حق، ولا يدخله ترجيح لكون الأقوال صحيحة، وجميعها مراد من الآية، والقرآن يشهد لكل واحد منها ” انتهى من “قواعد الترجيح عند المفسرين” (1/42-45)
وينظر للفائدة هذه الأجوبة: 300683، 276931، 4548.
والله أعلم.
تعليق