الحمد لله.
ظواهر الأدلة الشرعية تقرر أن الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب هم السابقون بالخيرات ، وليسوا المقتصدين أو الظالمين لأنفسهم ، وتوضيح ذلك فيما يلي :
أولا :
جاءت بعض الأحاديث النبوية الصريحة تقسم الناس ثلاثة أصناف ، فيصف النبي صلى الله عليه وسلم السابقين بالخيرات فقط أنهم يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب .
عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ :
( قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ) فاطر/32، فَأَمَّا الَّذِينَ سَبَقُوا بِالْخَيْرَاتِ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ ، وَأَمَّا الَّذِينَ اقْتَصَدُوا فَأُولَئِكَ يُحَاسَبُونَ حِسَابًا يَسِيرًا ، وَأَمَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ يُحَاسَبُونَ فِي طُولِ الْمَحْشَر ، ثُمَّ هُمُ الَّذِينَ تَلَافَاهُمُ اللهُ بِرَحْمَتِهِ ، فَهُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ : ( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ ) فاطر/34، إِلَى قَوْلِهِ : ( لُغُوبٌ ) فاطر/35 )
رواه الإمام أحمد في " المسند " (36/57) قال : حدثنا إسحاق بن عيسى ، حدثني أنس بن عياض الليثي أبو ضمرة ، عن موسى بن عقبة ، عن علي بن عبد الله الأزدي ، عن أبي الدرداء به .
وهذا إسناد صحيح ، رواته ثقات ، أولهم شيخ الإمام أحمد إسحاق بن عيسى البغدادي ، وكذلك شيخه أنس بن عياض ، وإمام المغازي موسى بن عقبة ، وكلهم ذكروا في طبقة تلاميذ ومشايخ بعضهم .
وأما علي بن عبد الله الأزدي فهو كذلك ثقة ، قال فيه ابن عدي : " لا بأس به عندي " انتهى من " الكامل " (6/307)، وذكره ابن حبان في " مشاهير علماء الأمصار " (ص/152) وقال : " من رهط محمد بن واسع ، كان يختم القرآن في رمضان في كل ليلة " انتهى.
" ولما ذكره ابن خلفون في كتاب " الثقات " قال: هو ثقة ، قاله أحمد بن صالح وغيره " هكذا جاء في " إكمال تهذيب الكمال " (9/357)
وقال الذهبي رحمه الله : " ما علمت لأحد فيه جرحة ، وهو صدوق " انتهى من " ميزان الاعتدال " (3/142)
وسماعه من أبي الدرداء محتمل أيضا ، فقد أثبت العلماء سماعه من عبد الله بن عمر ومن أبي هريرة رضي الله عنهما ، فليس من المستبعد إثبات سماعه من أبي الدرداء رضي الله عنه أيضا.
ولذلك قال الهيثمي رحمه الله :
" رواه أحمد بأسانيد رجال أحدها رجال الصحيح ، وهي هذه إن كان علي بن عبد الله الأزدي سمع من أبي الدرداء ، فإنه تابعي " انتهى من " مجمع الزوائد " (7/95)
وقد أعل محققو " المسند " في طبعة " مؤسسة الرسالة " هذا الحديث بالانقطاع بين علي بن عبد الله الأزدي وأبي الدرداء رضي الله عنه ، مستدلين بقول الإمام البخاري رحمه الله في " التاريخ الكبير " (19/18): " وقال محمد بن علي : نا سعيد بن عبد الحميد قال : نا ابن أبي الزناد ، عن موسى بن عقبة ، عن عبد الله بن علي الأزدي – هكذا في المطبوع ، والصواب علي بن عبد الله -، عن أبي خالد البكري ، أن رجلا جاء المدينة فلقي أبا الدرداء نحوه " انتهى.
فجعل بين عبد الله بن علي وأبي الدرداء أبا خالد البكري ، غير أن رواية الإمام أحمد رحمه الله التي ظاهرها الاتصال بين علي وأبي الدرداء أثبت ، فالراوي عن موسى بن عقبة هناك أنس بن عياض ، وهو أثبت من عبدالرحمن بن أبي الزناد الذي في إسناد " التاريخ الكبير "، فقد قال عنه أحمد بن حنبل : مضطرب الحديث ، وقال أبو حاتم وابن معين : لا يحتج به . انظر : " تهذيب التهذيب " (6/172).
وقد وردت أسانيد أخرى لهذا الحديث فيها شيء من الاضطراب ، يمكن مراجعتها في " التاريخ الكبير " (9/17-18)، غير أن الإمام الحاكم ذكرها في " المستدرك " (2/462) ثم قال : " وإذا كثرت الروايات في الحديث ظهر أن للحديث أصلا " انتهى، وكذلك قال البيهقي رحمه الله في " البعث والنشور " (ص/83)، ونقل العلامة ابن القيم عن طائفة من العلماء أنها " قد بلغت في الكثرة إلى حد يشد بعضها بعضا ، ويشهد بعضها لبعض " انتهى من " طريق الهجرتين " (ص/201)
ثانيا :
الآثار الواردة عن الصحابة في تفسير هذه الآيات تدل على أن السابقين بالخيرات هم
الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب .
عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنه قال في تفسير الآية :
" هم أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم ، ورثهم الله كل كتاب أنزله ؛ فظالمهم
يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حسابًا يسيرًا ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب "
رواه ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (20/465)
وعن أَبي وائل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال :
" هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة ؛ ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون
حسابًا يسيرًا ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول : ما هؤلاء ؟ وهو أعلم تبارك
وتعالى ، فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك ، فيقول
الرب : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي ، وتلا عبد الله هذه الآية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا
الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) "
رواه ابن جرير الطبري في " جامع البيان " (20/465)
ثالثا :
تقريرات أهل العلم في هذا الموضوع توضح أيضا أن الذين يدخلون الجنة بغير حساب هم
السابقون بالخيرات ، ننقل منها ما يلي :
يقول الشيخ صالح الفوزان حفظه الله :
" من حقق التوحيد ، يعني أنه لم يشرك بالله شيئاً ، ولم يكن عنده شيء من المعاصي ،
هذا تحقيق التّوحيد ، ومن بلغ هذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب .
أما من كان في المرتبة التي قبلها ، وهو الموحّد الذي عنده ذنوب ، فهذا قد يُغفر له
، وقد يعذب بالنار ثم يُخرج منها ؛ لأن الموحّدين على ثلاث طبقات كما قال تعالى : (
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ
ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ
بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ )
الطبقة الأولى : الذين سلموا من الشرك ، وقد لا يسلمون من الذنوب التي هي دون الشرك
، وهم الظالمون لأنفسهم ، وهم معرضون للوعيد .
الطبقة الثانية : المقتصدون الذين فعلوا الواجبات وتركوا المحرمات ، وقد يفعلون بعض
المكروهات ويتركون بعض المستحبات ، وهم الأبرار .
الطبقة الثالثة : التي سَلِمَت من الشرك الأكبر والأصغر ومن البدع ، وتركت المحرمات
والمكروهات وبعض المباحات ، واجتهدت في الطاعات من واجبات ومستحبات ، وهؤلاء هم
السابقون بالخيرات ، ومن كان بهذه المرتبة دخل الجنة بلا حساب ولا عذاب " انتهى من
" إعانة المستفيد شرح كتاب التوحيد " (1/74-75)
ويقول الشيخ عبدالله الغنيمان حفظه الله :
" الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب هم الذين يفعلون الواجبات ويتركون المحرمات
والمكروهات ، ويفعلون المستحبات ، وهؤلاء هم الذين ذكرهم الله جل وعلا في أحد أقسام
الذين أورثهم الله جل وعلا الكتاب ، وهم الذين اصطفاهم الله ، فهم السابقون
بالخيرات بإذن ربهم ؛ لأن الله جل وعلا قسمهم ثلاثة أقسام : قسم ظالم لنفسه ، وقسم
مقتصد ، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله .
فهؤلاء الذين يسبقون بالخيرات بإذن الله جل وعلا هم الذين يدخلون الجنة بغير حساب
ولا عذاب ، فيسبقون إليها قبل غيرهم ، وهذا أيضاً لا يلزم منه أن الذين يحاسبون ولا
يسبقون إليها يكونون أقل منهم درجة ، فقد يكون الذين يحاسبون منهم من إذا دخل الجنة
كان أعلى من السابقين الذين دخلوها بلا حساب ، كما إذا كان الإنسان عنده جهاد وعنده
أموال، ولكنه ينفق في سبيل الله وينفع عباد الله بأمواله ، فهو يحاسب عن ماله : من
أين جمعه وفيم أنفقه ، ولا بد من المحاسبة ، ولكن بعد المحاسبة قد تكون درجته أرفع
من درجة الذين يسبقون إلى الجنة بغير حساب " انتهى من " شرح فتح المجيد " (درس
رقم18/ص7 بترقيم الشاملة)
والله أعلم .
تعليق