الحمد لله.
أولا :
سؤالك مهم وفي محله ، وهو من مهمات القضايا التي تدرس في علم " أصول التفسير "، تطرق إليها العديد من الباحثين ، ومن أهمهم الدكتور حسين الحربي في كتابه الرائع " قواعد الترجيح عند المفسرين "، والدكتور خالد السبت في كتابه " قواعد التفسير " (1/208)، وكلاهما من الكتب الكبيرة المتخصصة التي لا يسهل قراءتها على عامة الناس ، وإنما على طلبة العلم والمعتنين بالعلوم الإسلامية.
ثانيا :
يمكننا هنا أن نقرب لك المسألة بتصورات سهلة إن شاء الله ، ذلك أن أكثر الاختلاف المنقول في تفسير القرآن الكريم ليس اختلافا حقيقيا ، وليس تعددا للمعاني ، وإنما هو اختلاف تنوع ، واختلاف ترادف تقريبا ، وهذا الأمر يعرفه من يهتم بأصول التفسير وقواعده .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الخلاف بين السلف في التفسير قليل ، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير ، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع لا اختلاف تضاد ، وذلك صنفان :
أحدهما :
أن يعبر كل واحد منهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه ، تدل على معنى في المسمى غير المعنى الآخر ، مع اتحاد المسمى ، بمنزلة الأسماء المتكافئة التي بين المترادفة والمتباينة . كما قيل في اسم ( السيف ): الصارم ، والمهند . وذلك مثل أسماء الله الحسنى ، وأسماء رسوله صلى الله عليه وسلم ، وأسماء القرآن .
مثال ذلك تفسيرهم للصراط المستقيم :
فقال بعضهم : هو " القرآن ": أي اتباعه ؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث علي الذي رواه الترمذي ورواه أبو نعيم من طرق متعددة ( هو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم )
وقال بعضهم : هو " الإسلام "، لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث النواس بن سمعان الذي رواه الترمذي وغيره : ( فالصراط المستقيم هو الإسلام ...)
فهذان القولان متفقان ؛ لأن دين الإسلام هو اتباع القرآن ، ولكن كل منهما نبه على وصف غير الوصف الآخر ، كما أن لفظ " صراط " يشعر بوصف ثالث . وكذلك قول من قال : هو " السنة والجماعة " وقول من قال : " هو طريق العبودية "، وقول من قال: " هو طاعة الله ورسوله " صلى الله عليه وسلم وأمثال ذلك ؛ فهؤلاء كلهم أشاروا إلى ذات واحدة ؛ لكن وصفها كل منهم بصفة من صفاتها .
الصنف الثاني : أن يذكر كل منهم من الاسم العام بعض أنواعه ، على سبيل التمثيل وتنبيه المستمع على النوع ، لا على سبيل الحد المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه ، مثل سائل أعجمي سأل عن مسمى " لفظ الخبز "، فأري رغيفا ، وقيل له : هذا . فالإشارة إلى نوع هذا ، لا إلى هذا الرغيف وحده .
مثال ذلك ما نقل في قوله : ( ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات )
فمعلوم أن الظالم لنفسه يتناول المضيع للواجبات ، والمنتهك للمحرمات ، والمقتصد يتناول فاعل الواجبات ، وتارك المحرمات ، والسابق يدخل فيه من سبق فتقرب بالحسنات مع الواجبات . ثم إن كلا منهم يذكر هذا في نوع من أنواع الطاعات ، كقول القائل : السابق الذي يصلي في أول الوقت ، والمقتصد الذي يصلي في أثنائه ، والظالم لنفسه الذي يؤخر العصر إلى الاصفرار ، ويقول الآخر السابق والمقتصد والظالم قد ذكرهم في آخر سورة البقرة ، فإنه ذكر المحسن بالصدقة ، والظالم بأكل الربا ، والعادل بالبيع ... فكل قول فيه ذكر نوع داخل في الآية ، ذكر لتعريف المستمع بتناول الآية له ، وتنبيهه به على نظيره ؛ فإن التعريف بالمثال قد يسهل أكثر من التعريف بالحد المطلق " انتهى باختصار من " مجموع الفتاوى " (13/333-337).
ثالثا :
من الأمثلة على الأصل السابق الذي ذكره شيخ الإسلام : ما ذكرته من الاختلاف في تفسير قوله تعالى : ( مثقال ذرة )، في أكثر من آية من كتاب الله ، ومنها قوله تعالى : ( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) يونس/61.
فقد ورد في تفسيرها أقوال عدة :
" أحدها : أنه رأس نملة حمراء ، رواه عكرمة عن ابن عباس .
والثاني : ذرّة يسيرة من التراب ، رواه يزيد بن الأصم ، عن ابن عباس .
والثالث : أصغر النمل ، قاله ابن قتيبة ، وابن فارس .
والرابع : الخردلة .
والخامس : الواحدة من الهباء الظاهر في ضوء الشمس إذا طلعت من ثقب ، ذكرهما الثعلبي .
واعلم أن ذكر الذرّة ضَرْبُ مَثَلٍ بما يُعقل ، والمقصود أنه لا يظلم قليلاً ولا كثيراً " انتهى من " زاد المسير في علم التفسير " (1/ 406).
فالأوجه السابقة في تفسير " الذرة " ظاهر منها أن الاختلاف فيها ليس من قبيل التقابل والتضاد، بل كلها تدل على معنى واحد ، وهو الشيء المتناهي في الصغر ، لذلك ختم ابن الجوزي رحمه الله ما نقله من أوجه بقوله " واعلم أن ذكر الذرّة ضَرْبُ مَثَلٍ بما يُعقل ، والمقصود أنه لا يظلم قليلاً ولا كثيراً "
ويقول العلامة الطاهر بن عاشور رحمه الله :
" ذكرت الذرة مبالغة في الصغر والدقة ، للكناية بذلك عن إحاطة العلم بكل شيء ، فإن ما هو أعظم من الذرة يكون أولى بالحكم " انتهى من " التحرير والتنوير " (11/214).
رابعا :
لا ينفي ذلك أن يكون أهل التأويل ، وعلماء التفسير ، اختلاف حقيقي في تفسير بعض الآيات ، ينبني عليه اختلاف عقائدي أو فقهي أو سلوكي ، ولكن حين يقع مثل هذا النوع من الاختلاف فلا بد من سلوك مسالك الترجيح المعتبرة لدى المفسرين ، وهي مسالك كثيرة جدا ، وقواعد دقيقة ، لا بد من العودة فيها إلى المختصين .
يقول ابن جزي الكلبي رحمه الله :
" اعلم أنّ التفسير : منه متفق عليه ، ومختلف فيه .
ثم إنّ المختلف فيه على ثلاثة أنواع :
الأوّل : اختلاف في العبارة ، مع اتفاق في المعنى : فهذا عدّه كثير من المؤلفين خلافا ، وليس في الحقيقة بخلاف لاتفاق معناه ، وجعلناه نحن قولا واحدا ، وعبّرنا عنه بأحد عبارات المتقدّمين ، أو بما يقرب منها ، أو بما يجمع معانيها .
الثاني : اختلاف في التمثيل ، لكثرة الأمثلة الداخلة تحت معنى واحد ، وليس مثال منها على خصوصه هو المراد ، وإنما المراد المعنى العامّ التي تندرج تلك الأمثلة تحت عمومه ، فهذا عدّه أيضا كثير من المؤلفين خلافا ، وليس في الحقيقة بخلاف ؛ لأنّ كل قول منها مثال ، وليس بكل المراد ، ولم نعدّه نحن خلافا : بل عبّرنا عنه بعبارة عامّة تدخل تلك تحتها ، وربما ذكرنا بعض تلك الأقوال على وجه التمثيل ، مع التنبيه على العموم المقصود .
الثالث : اختلاف المعنى ، فهذا هو الذي عددناه خلافا ، ورجحنا فيه بين أقوال الناس " انتهى من " التسهيل لعلوم التنزيل " (1/16).
ويقول الدكتور حسين الحربي :
" الخلاف لا يخلو من أحد أربعة أمور :
الوجه الأول : أن تكون جميع الأقوال محتملة في الآية ، وبقوة الاحتمال نفسها ، أو قريبا منه ، ومن نصوص القرآن والسنة ما يشهد لكل واحد منها .
كالخلاف في لفظة (ما) في قوله تعالى: ( الله يعلم ما تحمل كل أنثى ) فهي تحتمل أن تكون موصولة ... وتحتمل أن تكون مصدرية . فمثل هذا الخلاف محتمل ، وكل الأقوال فيه حق ، ولا يدخله ترجيح ؛ لكون الأقوال صحيحة ، وجميعها مراد من الآية ، إذ يستقيم حمل الآية على كل قول منها ، وليس بعضها أولى من بعض .
الوجه الثاني : أن تكون الأقوال متعارضة مع بعضها ، يتعذر حمل الآية عليها جميعا .
الوجه الثالث : أن تكون الأقوال ليست متعارضة مع بعضها ، وإنما يكون بعضها معارضا لدلالة آيات قرآنية ، أو لنصوص صحيحة من السنة ، أو لإجماع الأمة .
الوجه الرابع : أن تكون الأقوال المختلفة ليس بينها تعارض – لا مع بعضها ، ولا مع آيات أو أحاديث أو إجماع – وهي محتملة ، غير أن بعضها أولى من بعض لاعتبارات سيأتي بسطها .
[ ثم فصل الباحث الدكتور وفقه الله في مسالك الترجيح عند وقوع الخلاف على أحد الأوجه الثلاثة الأخيرة ]" انتهى بتصرف من " قواعد الترجيح عند المفسرين " (41-57).
وهكذا يمكن التعامل مع كل اختلاف ، لا بد من تصنيفه من أي الأوجه هو ، ثم العمل على الترجيح بين الأقوال ضمن قواعد الترجيح والتفسير المعتبرة .
وللتوسع في قوله تعالى : ( والأرض بعد ذلك دحاها ) يرجى مراجعة الفتوى رقم : (118698) ، (201530).
والله أعلم .
تعليق