الحمد لله.
أولا :
روى البخاري (4830) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( خَلَقَ اللَّهُ الخَلْقَ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْهُ قَامَتِ الرَّحِمُ، فَأَخَذَتْ بِحَقْوِ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ لَهُ: مَهْ، قَالَتْ: هَذَا مَقَامُ العَائِذِ بِكَ مِنَ القَطِيعَةِ، قَالَ: أَلاَ تَرْضَيْنَ أَنْ أَصِلَ مَنْ وَصَلَكِ، وَأَقْطَعَ مَنْ قَطَعَكِ، قَالَتْ: بَلَى يَا رَبِّ، قَالَ: فَذَاكِ )
قال الفيومي رحمه الله :
" الْحَقْوُ: مَوْضِعُ شَدِّ الْإِزَارِ وَهُوَ الْخَاصِرَةُ ، ثُمَّ تَوَسَّعُوا حَتَّى سَمَّوْا الْإِزَارَ الَّذِي يُشَدُّ عَلَى الْعَوْرَةِ حَقْوًا وَالْجَمْعُ أَحَقٌّ وَحُقِيٌّ مِثْلُ: فَلْسٍ وَفُلُوسٍ وَقَدْ يُجْمَعُ عَلَى حِقَاءٍ مِثْلُ: سَهْمٍ وَسِهَامٍ " انتهى من "المصباح المنير" (145) وينظر: "المحكم" لابن سيده (3/456) .
ثانيا :
هل الظاهر من معنى هذا الحديث : أن لله عز وجل حقوا ، على وجه الحقيقة ، فتتعلق الرحم بربها عز وجل ، وهي تناشده أن يعيذها من قاطعها ؟
أو أن ذلك كناية عن تأكد شأن حق الرحم ، وتعظيم شأنها ، فأضيفت إلى الله عز وجل ، تكريما لها وتشريفا ؟
ينبغي أن ينتبه هنا إلى أمرين ، قبل الجواب عن ذلك الاحتمال :
الأول : أن كون الدليل المعين ، يدل على المدلول المعين : هو من مسائل النظر والاجتهاد ، وظهور هذه الدلالة ، وعدم ظهورها ، هو أمر نسبي ، بحسب ما يترجح للمجتهد ، ويبدو لنظره .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" الخفاء والظهور من الأمور النسبية الإضافية فقد يتضح لبعض الناس أو للإنسان في بعض الأحوال ما لا يتضح لغيره أو له في وقت آخر " انتهى من "درء التعارض" (3/330) .
الثاني : أنه لا يلزم أن يكون تقرير المسألة من مسائل العلم أو العمل من باب القطع ، أو الضرورة التي لا تحتمل نظرا ولا خلافا ؛ بل كثير من مسائل العلم والعمل : للاجتهاد والنظر والاحتمال فيها مجال . وقد يقطع العالم أو المتكلم بأمر لم يعلمه غيره أصلا ، فضلا عن أن يظنه ، أو يقطع به.
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
"كَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعَمَلِ قَطْعِيَّةٌ ، وَكَثِيرٌ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ لَيْسَتْ قَطْعِيَّةً ، وَكَوْنُ الْمَسْأَلَةِ قَطْعِيَّةً أَوْ ظَنِّيَّةً هُوَ مِنْ الْأُمُورِ الْإِضَافِيَّةِ ، وَقَدْ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عِنْدَ رَجُلٍ قَطْعِيَّةً لِظُهُورِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ لَهُ ، كَمَنْ سَمِعَ النَّصَّ مِنْ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَيَقَّنَ مُرَادَهُ مِنْهُ ، وَعِنْدَ رَجُلٍ لَا تَكُونُ ظَنِّيَّةً ، فَضْلًا عَنْ أَنْ تَكُونَ قَطْعِيَّةً ، لِعَدَمِ بُلُوغِ النَّصِّ إيَّاهُ ، أَوْ لِعَدَمِ ثُبُوتِهِ عِنْدَهُ ، أَوْ لِعَدَمِ تَمَكُّنِهِ مِنْ الْعِلْمِ بِدَلَالَتِهِ " انتهى من "مجموع الفتاوى" (23/347) .
وقال أيضا : " .. وخفاءُ الدلالة وظهورُها : أمرٌ نِسْبِى ؛ فقد يَخْفى على هذا ، ما يَظْهر لهذا" انتهى من "جامع المسائل" (2/288) .
الثالث : أنه في غير المسائل الكبار المشتهرة ، من مسائل العلم والعمل : من ترجح عنده ثبوت الدليل ، ودلالته على مسألة من مسائل العلم أو العمل : لزمه القول بموجبه ، ولو كان ذلك على وجه الظهور ، وغلبة الظن ، ولم يكن على وجه القطع واليقين ، والعلم الضروري .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" من الناس من يقول مسائل الأصول لا يجوز التمسك فيها إلا بأدلة يقينية ، لا ظنية ؟
هذا على وجهين : فإن كان مما أُمرنا فيها باليقين ، كاليقين بالوحدانية ، والإيمان بالرسول ، والإيمان باليوم الآخر ؛ فما أمرنا فيه باليقين : لم يمكن إثباتها إلا بأدلة يقينية .
وأما ما لا يجب علينا فيها اليقين ، كتفاصيل الثواب والعقاب ، ومعاني بعض الأسماء والصفات : فهذه إذا لم يكن فيها دليل قطعي يدل على أحد الطرفين ، كان القول بما يترجح من الأدلة ، أن هذا هو الظاهر الراجح : قولاً عدلاً مستقيماً ؛ بل كان خيراً من الجهل المحض .
وأيضا فمن الناس من لا يقدر على العلم في جميع ما يتنازع فيه الناس ، وفي دقيق المسائل ؛ فإذا تكلم بحسب طاقته واجتهاده : فلا يكلف الله نفساً إلا وسعها . " انتهى من "بيان تلبيس الجهمية" (8/454) . وينظر أيضا : "جواب الاعتراضات المصرية على الفتوى الحموية" (49-53) .
ثالثا :
ذهب بعض أهل العلم إلى أن حديث أبي هريرة المذكور أول الجواب هو من أحاديث الصفات ، وأن إضافة "الحقو" إلى الله جل جلاله هي من إضافة الصفة إلى الموصوف ، وأثبت "الحقو" صفة من صفات الذات ، لله عز وجل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" هذا من الأخبار التي يقره من يقر نظيره والنزاع فيه كالنزاع في نظيره .."
ثم نقل الإثبات عن القاضي أبي يعلى ، وشيخه أبي عبد الله بن حامد ، ونقله ابن حامد عن الإمام أحمد ؛ قال : " يُمْضى كلُّ حديث على ما جاء " .
ثم قال شيخ الإسلام :
" والمقصود هنا : أن هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء ، وردوا على من نفى موجبه " .
ينظر: "بيان تلبيس الجهمية" (6/205-241) ، وأيضا : "صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة" ، للشيخ علوي السقاف (125-128) .
والقول الثاني: أن هذا الحديث ليس من أحاديث الصفات ، ولذلك لم يذكره أكثر الأئمة في تصانيفهم في العقائد ، وجمعهم لصفات الله الواردة في الكتاب والسنة ، ولم يبوب عليه البخاري ولا غيره من أئمة الحديث الذين رووه في ذلك ، حتى ظن بعضهم أنه خارج عن هذا الباب بالاتفاق ؛ وإنما هو كناية عن تأكد حق الرحم ، كما في الحديث الآخر ، حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ أيضا ـ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( إِنَّ الرَّحِمَ شَجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ، فَقَالَ اللَّهُ: مَنْ وَصَلَكِ وَصَلْتُهُ، وَمَنْ قَطَعَكِ قَطَعْتُهُ ) رواه البخاري (5988) وغيره .
وعن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَوْفٍ رضي الله عنه قال : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : أَنَا اللَّهُ ، وَأَنَا الرَّحْمَنُ ؛ خَلَقْتُ الرَّحِمَ ، وَشَقَقْتُ لَهَا مِنْ اسْمِي ؛ فَمَنْ وَصَلَهَا وَصَلْتُهُ ، وَمَنْ قَطَعَهَا بَتَتُّهُ ) .
رواه أحمد (1689) وغيره ـ، وصححه الألباني .
وقد سئل العلامة الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله :
" ..هل في هذا الحديث دليل على ثبوت صفة الحقو لله تعالى ، على ما يليق بعظمته وجلاله"؟ فأجاب :
" الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، أما بعد؛
فنقول كما قال الإمام الشافعي رحمه الله : "آمنا بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنا برسول الله وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله" !!
وهذا يشمل ما ظهر لنا معناه، وما لم يظهر معناه ؛ فما ظهر معناه قلنا: هذا مراد الله، أو مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما لم يظهر معناه نفوض علمه إلى عالمه.
وهذا الحديث مما يشتبه معناه ؛ هل المراد حقيقة هذه الكلمات: الأخذ، الرحم، الحقو، أو هو تمثيل لحق الرحم، وهي القرابة عند الله تعالى؟
لأن من المعلوم أن الرحم مطلقا يدل على المعنى الكلي المشترك بين كل قرابة، وقد دلت النصوص على أن القرابة صلةٌ تستوجب حقا للقريب على قريبه، بحسب حاله ودرجة قرابته، فأوجبت الشريعة صلة الرحم، وحرمت القطيعة، فقال تعالى في الثناء: ( وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ )، وقال في الذم: ( وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ )، وقال سبحانه: ( فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ )، وعلى هذا فالحديث يشبه قوله صلى الله عليه وسلم عن الله: ( قال الله عز وجل: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري )، ويشبه من حيث الأسلوب قوله صلى الله عليه وسلم: ( وأنا آخذ بحُجَزكم عن النار، وأنتم تفلتون من يدي )، وهذا الاحتمال عندي أنه أظهر، وذلك لأن جنس الرحم ليست شيئا معينا موجودا في الخارج، بل الموجود أفراد الرحم، وهي القرابات التي بين الناس، كما تقدم.
ويحسن هنا أن نثبت قول شيخ الإسلام ابن تيمية في نقض التأسيس: (6/222) (ط.مجمع الملك فهد)، قال رحمه الله: "هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء، وردوا على من نفى موجَبه"أهـ.
وعلى هذا : فالحقو لله صفة له سبحانه، ليس شيئا بائنا عنه، ولا عدول لنا عن مذهب أهل السنة، وما نص عليه الأئمة... " انتهى .
والله أعلم .
تعليق