الحمد لله.
أولاً :
سبق في أكثر من جواب في الموقع : أن الصدقة عن الميت جائزة ، وأن الميت ينتفع بذلك ، وهذا مما لا خلاف فيه بين أهل العلم رحمهم الله .
ومما يستدل به على جواز الصدقة عن الميت حديث عائشة رضي الله عنها : " أن رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن أمي افتلتت نفسها ، وأظنها لو تكلمت تصدقت ، فهل لها أجر إن تصدقت عنها ؟ قال : ( نَعَمْ ) " رواه البخاري (1388) ، ومسلم (1004) .
قال النووي رحمه الله : " وفي هذا الحديث : أن الصدقة عن الميت تنفع الميت ويصله ثوابها , وهو كذلك بإجماع العلماء , وكذا أجمعوا على وصول الدعاء وقضاء الدين بالنصوص الواردة في الجميع " انتهى من " شرح مسلم للنووي " .
وقال ابن قدامه رحمه الله : " وأي قربة فعلها , وجعل ثوابها للميت المسلم , نفعه ذلك , إن شاء الله , أما الدعاء , والاستغفار , والصدقة , وأداء الواجبات , فلا أعلم فيه خلافا , إذا كانت الواجبات ، مما يدخله النيابة " انتهى من " المغني " (2/226) .
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " الصدقة عن الموتى ونحوها تصل إليهم باتفاق المسلمين " انتهى من "جامع المسائل" (4/270) .
وقد سبق في الموقع بيان حكم الصدقة عن الميت ، وذكر الأدلة على ذلك ، فينظر
للفائدة جواب السؤال رقم : (42384) ، وجواب السؤال رقم : (763) .
ثانياً :
أما حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه ، فقد رواه أحمد (16904) ، وفيه : " جاء رجل
إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أمي ماتت ، وإني أريد أن أتصدق عنها ،
قال : ( أَمَرَتْكَ ؟ ) ، قال : لا ، قال : ( فَلَا تَفْعَلْ ) .
وفي لفظ آخر من حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه – أيضاً - : " أن غلاما أتى النبي
صلى الله عليه وسلم ، فقال يا رسول الله : إن أمي ماتت ، وتركت حُلياً ، أفأتصدق به
عنها ؟ قال : ( أُمُّكَ أَمَرَتْكَ بِذَلِكَ ؟ ) ، قال : لا ، قال : ( فَأَمْسِكْ
عَلَيْكَ حُلِيَّ أُمِّكَ ) " رواه أحمد (16984) .
وجاء عند الطبراني في " المعجم الكبير " بلفظ : " إن أمي توفيت و تركت حليا ولم توص
، فهل ينفعها إن تصدقت عنها ؟ فقال : ( احبس عليك مالك ) " .
ورواية أحمد ضعفها بعض أهل العلم ؛ لوجود ابن لهيعة في سند الحديث .
قال محققو مسند الإمام أحمد :
" إسناده ضعيف ، فيه ابن لهيعة ، وهو سيئ الحفظ.
وسيأتي من طريق ابن لهيعة برقم (17437) ، ومن طريق رشدين بن سعد برقم (17438) ،
ورشدين ضعيف سيئ الحفظ وكان يخلط في الحديث ، وله مناكير.
وأخرجه الطبراني في "الكبير" 17/ (772) من طريقين عن ابن لهيعة ، بهذا الإسناد.
وأخرجه أيضاً 17/ (773) من طريق جرير بن حازم ، عن يحيى بن أيوب ، عن يزيد بن أبي
حبيب، به.
ويحيى بن أيوب هذا : هو الغافقي المصري، وهو مختلف فيه ، وتكلم بعضُ أهل العلم في
حفظه ، وقال ابن يونس صاحب "تاريخ المصريين": أحاديث جرير بن حازم ، عن يحيى بن
أيوب : ليس عند المصريين منها حديث ، وهي تشبه عندي أن تكون من حديث ابن لهيعة.
قلنا: وهذا الحديث منكر، فقد خالفه الحديث الصحيح الذي خرَّجه الشيخان: البخاري
(1388) و (2760) ، ومسلم (1004) ، من حديث عائشة أم المؤمنين: " أن رجلاً قال للنبي
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن أمِّي افتُلِتَت نفسها (أي: ماتت فجأة) ،
وأظنُّها لو تكلَّمت تصدَّقت ، أفأتصدَّق عنها؟ قال: "نعم، تصدَّق عنها". وفي
رواية: فهل لها أجر إن تصدَّقتُ عنها؟ وسيأتي الحديث في "المسند" 6/51.
ويخالفه أيضاً حديث ابن عباس عند البخاري (2756) و (2762) : " أن سعد بن عبادة
توفِّيت أمُه وهو غائب عنها، فقال: يا رسول الله ، إن أمي توفِّيت وأنا غائبٌ عنها،
أينفعُها شيءٌ إن تصدَّقتُ به عنها ؟ قال: ( نعم )، قال: فإني أُشهِدك أن حائطي
المِخراف صدقةٌ عليها " .
وقد سلف في مسنده برقم (3080) . " انتهى من تحقيق "المسند" (28/587)، وينظر أيضا:
(4/150) ، (4/157) .
وذهب بعض أهل العلم إلى تحسين الحديث .
قال الهيثمي رحمه الله : " ورجال الطبراني رجال الصحيح ، وفي إسناد أحمد ابن لهيعة
" .
انتهى من " مجمع الزوائد " (3/334) .
وقال – أيضاً - رحمه الله : " رواه أحمد ، وفيه ابن لهيعة ، وحديثه حسن ، وبقية
رجاله رجال الصحيح " انتهى من " مجمع الزوائد " (4/411) .
وقال الشيخ الألباني رحمه الله :
" أخرجه الطبراني ( 17 / 281 / 773 ) من طريقين عن وهب بن جرير : حدثني أبي قال :
سمعت يحيى بن أيوب يحدث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير مرثد بن عبد الله اليزني
عن عقبة بن عامر قال : أتى رجل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أمي توفيت ،
وتركت حليا ولم توص ، فهل ينفعها إن تصدقت عنها ؟ فقال : فذكره .
قلت : وهذا إسناد صحيح على شرط الشيخين ، ويحيى بن أيوب هو الغافقي ، قال الحافظ :
" صدوق ربما أخطأ " ، وقد تابعه ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب به نحوه ، ولفظه : "
.. أفأتصدق به عنها ؟ قال : أمك أمرتك بذلك ؟ قال : لا . قال : فأمسك عليك حلي أمك
" أخرجه أحمد ( 4 / 157 ) .
ثم أخرجه من طريق رشدين : حدثني عمرو بن الحارث والحسن بن ثوبان عن يزيد بن أبي
حبيب به مختصرا .
قلت : وهذا الحديث ، من صحيح حديث ابن لهيعة أيضا للمتابعات المذكورة " .
انتهى من " السلسلة الصحيحة " (6/278) .
وعلى هذا ، فإذا قيل بصحة الحديث ، فإنه محمول على حال معينة ، فيقال : لعل
السائل كان فقيراً ، ولهذا أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يمسك ماله لحاجته لذلك
المال ، وقد يقال : لعل الحامل على أمره بأن يمسك ماله ، ما تبادر إلى ذهن السائل ،
من أن الميت إذا ترك شيئا ، فإن وارثه يتصدق به عنه ، كما قد يفهم من رواية : ( إن
أمي ماتت ، وتركت حُلياً ، أفأتصدق به عنها ) ، فأراد النبي صلى الله عليه وسلم أن
يبين له أن ذلك ليس بلازم ، والله أعلم .
قال الشيخ الألباني رحمه الله – معلقاً على حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه - :
" واعلم أن ظاهر الحديث يدل أنه ليس للولد أن يتصدق عن أمه إذا لم توص . وقد جاءت
أحاديث صريحة بخلافه ، منها حديث ابن عباس : أن سعد بن عبادة قال : يا رسول الله !
إن أمي توفيت - وأنا غائب عنها - فهل ينفعها إن تصدقت بشيء عنها ؟ قال : نعم . وهو
مخرج في " أحكام الجنائز " ( ص 172 ) ، و" صحيح أبي داود " (2566) ، وفي معناه
أحاديث أخرى مذكورة هناك .
أقول : فلعل الجمع بينه وبينها ، أن يحمل على أن الرجل السائل كان فقيرا محتاجا
، ولذلك أمره بأن يمسك ماله . ويؤيده أنه صلى الله عليه وسلم لم يجبه على سؤاله :
فهل ينفعها إن تصدقت عنها ؟
بقوله مثلا : " لا " ، و إنما قال له : " احبس عليك مالك " ، أي : لحاجته إليه .
هذا ما بدا لي ، والله أعلم " انتهى من " السلسلة الصحيحة " (6/278) .
والقول بتضعيف الحديث ظاهر قوي ، بل هو أقوم بالصنعة الحديثية في مثل ذلك .
والله أعلم .
تعليق