الحمد لله.
الذبائح التي تجب على الحاج في حجه ، هي على أنواع :
النوع الأول : هدي التمتع والقران ، فمن حجّ متمتعا ، أو قارنا ، وجب عليه أن يذبح هديا ، متى كان واجدا له ، وإلا صام بدلا عنه . قال الله تعالى : ( فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) البقرة /196 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" أي : إذا تمكنتم من أداء المناسك ، فمن كان منكم متمتعا بالعمرة إلى الحج ، وهو يشمل من أحرم بهما ( أي القران ) ، أو أحرم بالعمرة أولا ، فلما فرغ منها أحرم بالحج ، وهذا هو التمتع الخاص ، وهو المعروف في كلام الفقهاء . ..... ( فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ ) أي : فليذبح ما قدر عليه من الهدي ، وأقله شاة " انتهى من " تفسير ابن كثير " (1/537) .
ومحل ذبح هذا الهدي هو الحرم المكي .
قال ابن العربي رحمه الله :
" ولا خلاف في أن الهدي لا بد له من الحرم " انتهى من " أحكام القرآن " (2/186) .
وجاء في " الموسوعة الفقهية " (42/250 – 251) :
" اتفق الفقهاء على أن دماء الهدي - عدا الإحصار - يختص جواز إراقتها بالحرم ، ولا يجوز ذبح شيء منها خارجه ؛ لقوله تعالى في جزاء الصيد : ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) ، وقوله تعالى : ( ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ) ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : ( نحرت هاهنا ، ومنى كلها منحر ، فانحروا في رحالكم ) ، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( كل فجاج مكة طريق ومنحر ) " انتهى .
والواجب في لحمه : أن يوزع منه على فقراء الحرم ومساكينه ، ويجوز نقل شيء منه لخارج الحرم للأكل والإهداء .
فعن جَابِر بْن عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال : " كُنَّا لاَ نَأْكُلُ مِنْ لُحُومِ بُدْنِنَا فَوْقَ ثَلاَثِ مِنًى ، فَرَخَّصَ لَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقَالَ : ( كُلُوا وَتَزَوَّدُوا ) ، فَأَكَلْنَا وَتَزَوَّدْنَا " رواه البخاري ( 1719 ) ، ومسلم ( 1972 ) .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" هدي المتعة والقران هدي شكران ، فلا يجب أن يصرف لمساكين الحرم ، بل حكمه حكم الأضحية ، أي : أنه يأكل منه ، ويهدي ، ويتصدق على مساكين الحرم .
فلو ذبح الإنسان هدي التمتع والقران في مكة ، ثم خرج بلحمه إلى الشرائع ، أو إلى جدة أو غيرها ، فلا بأس ، لكن يجب أن يتصدق منه على مساكين الحرم " انتهى من " الشرح الممتع " (7/203 ) .
النوع الثاني : ما ذبح لترك واجب ، فمن ترك واجبا من واجبات الحج ، فإنه يجبر هذا النقص الحاصل بأن يذبح شاة .
فعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما ، قَالَ : " مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئاً ، أَوْ تَرَكَهُ ، فَلْيُهْرِقْ دَماً ) رواه الإمام مالك في " الموطأ " ( 1583 ) .
وهذا الذبح يجب أن يكون في الحرم ، ويوزع لحمه في الحرم أيضا .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" والعلماء نصوا على هذا ، وقالوا : إنه يجب أن يذبح هدي التمتع والقِران ، والهدي الواجب لترك واجب ، يجب أن يذبح في مكة ، وقد نص الله على ذلك في جزاء الصيد ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) .
فما قُيِّد في الشرع بأماكن معينة : لا يجوز أن ينقل إلى غيرها ، بل يجب أن يكون فيها ، فيجب أن تكون الهدايا في مكة ، وتوزع في مكة " انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (25/83) .
النوع الثالث : ما يذبح بسبب فعل الحاج لمحظور من محظورات الإحرام .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" وفعل ما يحرم : ثبت بالنص القرآني أن فيه نسكا ، قال الله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ ) البقرة/196 " انتهى من " الشرح الممتع " (7/408) .
وينظر : " الجامع لأحكام القرآن " للقرطبي (3/292 - 293) .
فإذا وجب عليه نسك ، فإنه مخير بين ذبحه وتوزيعه في مكان فعل المحظور ، سواء كان هذا المكان داخل الحرم أو خارجه ، وبين ذبحه وتوزيعه في الحرم .
فعَنْ كَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَآهُ وَأَنَّهُ يَسْقُطُ عَلَى وَجْهِهِ ، فَقَالَ : ( أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّكَ ؟ ) قَالَ : نَعَمْ . فَأَمَرَهُ أَنْ يَحْلِقَ وَهُوَ بِالحُدَيْبِيَةِ ، وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ أَنَّهُمْ يَحِلُّونَ بِهَا ، وَهُمْ عَلَى طَمَعٍ أَنْ يَدْخُلُوا مَكَّةَ . فَأَنْزَلَ اللَّهُ الفِدْيَةَ ، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُطْعِمَ فَرَقًا بَيْنَ سِتَّةٍ ، أَوْ يُهْدِيَ شَاةً ، أَوْ يَصُومَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ " رواه البخاري (1817 ) ، ومسلم (1201) .
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" وما جاز أن يذبح ويفرق خارج الحرم حيث وجد السبب ، فإنه يجوز أن يذبح ويفرق في الحرم ، ولا عكس " انتهى من " الشرح الممتع " (7/204) .
ومن هذا النوع : البدنة التي تلزم المحرم ، إذا جامع امرأته قبل التحلل الأول :
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" ( إذا كان ) المحظور جماعاً قبل التحلل الأول في الحج ، فإن الواجب فيه بدنة يذبحها في مكان فعل المحظور ، أو في مكة ويفرقها على الفقراء " انتهى من " مجموع فتاوى ابن عثيمين " (22/222) .
النوع الرابع : ما يذبح بسبب الإحصار ( وهو أن يمنعه مانع من إكمال حجه ) .
قال الله تعالى : ( وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ) البقرة/196 .
فهذا حكمه حكم النوع السابق ، فإنه يذبح هديه في مكان إحصاره ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما منع من دخول مكة زمن الحديبية نحر هديه خارج الحرم .
ويجوز أيضا : ذبحه وتوزيعه داخل الحرم :
فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا : " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مُعْتَمِرًا ، فَحَالَ كُفَّارُ قُرَيْشٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ البَيْتِ ، فَنَحَرَ هَدْيَهُ ، وَحَلَقَ رَأْسَهُ بِالحُدَيْبِيَةِ " رواه البخاري (4252) .
قال ابن حجر رحمه الله تعالى :
" ظاهر القصة أن أكثرهم نحر في مكانه ، وكانوا في الحل ، وذلك دال على الجواز ، والله أعلم " انتهى من " فتح الباري " (4/11) .
النوع الخامس : ما يذبح جزاء للصيد . فهذا يجب أن يذبح ويفرق داخل الحرم ، ولا يجزئ خارج الحرم .
قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ ) المائدة / 95 .
قال ابن كثير رحمه الله :
" وقوله تعالى : ( هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ ) أي : واصلا إلى الكعبة ، والمراد وصوله إلى الحرم ، بأن يذبح هناك ، ويفرق لحمه على مساكين الحرم . وهذا أمر متفق عليه في هذه الصورة " انتهى من " تفسير ابن كثير " (3/194) .
ومما سبق يتبين أن ما شرع ذبحه داخل الحرم : لا يجوز ذبحه خارجه ، وأما ما شرع ذبحه خارج الحرم ، فإنه يجوز نقله وذبحه في الحرم .
ومن أتم حجه ونسكه ، لكنه ذبح الهدي خارج الحرم : فحجه صحيح ، لكن يجب عليه يذبح هديا آخر ، بدلا منه ، داخل الحرم . وإذا كان لا يستطيع الذهاب بنفسه إلى مكة ، فإنه يؤكل من يثق به ليذبح عنه داخل الحرم .
قال الشيخ ابن باز رحمه الله :
" هدي التمتع والقران لا يجوز ذبحه إلا في الحرم ، فإذا ذبحه في غير الحرم ، كعرفات وجدة وغيرهما : فإنه لا يجزئه ، ولو وزع لحمه في الحرم ، وعليه هدي آخر يذبحه في الحرم ، سواء كان جاهلاً أو عالماً ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نحر هديه في الحرم ، وقال : ( خذوا عني مناسككم ) ، وهكذا أصحابه رضي الله عنهم إنما نحروا هديهم في الحرم تأسياً به صلى الله عليه وسلم " انتهى من " مجموع فتاوى ابن باز " (18/31 - 32) .
ثانيا :
سؤالك : ( ولماذا ينبغي ذبح الهدي داخل حدود الحرم ) ؟
يذبح الهدي داخل الحرم ؛ للآتي :
1- لأنه هذا الذي جاء به القرآن والسنة ، فيجب اتباعهما .
قال الله تعالى : ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُّبِينًا) الأحزاب/36 ، وقال الله تعالى : ( وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ) الحشر / 7 .
وشأن هذه الذبائح ، شأن سائر مناسك الحج ، بل شأن جميع العبادات : يتبع فيها أمر الله ورسوله ، من غير أن يقال : " لماذا " ؟ .
وقد روى البخاري (315) ، ومسلم (335) أن عائشة رضي الله عنها أنكرت عل من سألتها : لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة ؟ وقَالَتْ : " كَانَ يُصِيبُنَا ذَلِكَ ؛ فَنُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ ، وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ " .
قال الشاطبي رحمه الله :
" أَمَّا أُمُورُ التَّعَبُّدَاتِ ، فَعِلَّتُهَا الْمَطْلُوبَةُ مُجَرَّدُ الِانْقِيَادِ ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ ، وَلِذَلِكَ لَمَّا سُئِلَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنْ قَضَاءِ الْحَائِضِ الصَّوْمَ دُونَ الصَّلَاةِ ، أنكرت على السائلة أَنْ يُسْئَلَ عَنْ مِثْلِ هَذَا ؛ إِذْ لَمْ يُوضَعْ التَّعَبُّدُ أَنْ تَفْهَمَ عِلَّتَهُ الْخَاصَّةَ ، ثُمَّ قَالَتْ : " كُنَّا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّوْمِ وَلَا نُؤْمَرُ بِقَضَاءِ الصَّلَاةِ ، وَهَذَا يُرَجِّحُ التَّعَبُّدَ عَلَى التَّعْلِيلِ بِالْمَشَقَّةِ ، وَقَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ فِي مَسْأَلَةِ تَسْوِيَةِ الشَّارِعِ بين دية الأصابع : " هي السنة با ابْنَ أَخِي " ، وَهُوَ كَثِيرٌ" انتهى من " الموافقات " (2/526) .
2- لأنه منسك من مناسك الحج ؛ والحج متعلق بمكة ، وأغلب أعماله تقام داخل الحرم ، فيكون ذبح الهدي داخل الحرم موافقا لأصل عبادة الحج في مكانها .
3- ذبح الهدي وتوزيعه داخل الحرم هو من التوسعة على مساكين هذا المكان ، ولعل هذا من الرزق الذي تكفل الله به لأهل هذا البيت استجابة لدعاء إبراهيم عليه السلام ، وذلك في قول الله تعالى : ( رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ) إبراهيم /37 .
ينظر: " المغني " لابن قدامة (5/451 ) .
والله أعلم .
تعليق