الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

هل يمكن أن يصل الثناء على مخلوق أو محبة كرة القدم إلى حدّ العبادة ؟

243682

تاريخ النشر : 10-07-2016

المشاهدات : 21273

السؤال


ما معنى العبادة؟ أعلم أن عبادة غير الله شرك. ولكن ماذا لو أثنيت على أحدهم ثناء عظيماً فهل هذا نوع من العبادة؟ أو أن أصرف كثيرا ًمن وقتي في لعب كرة القدم فهل هذه عبادة لتلك اللعبة؟

الجواب

الحمد لله.


أولا :
فعل الإنسان لا يكون عبادة إلا إذا توفر فيه ركنان أساسيان ، وهما : كمال الحب ، وكمال الذل.
قال ابن القيم رحمه الله :
وعبادة الرحمن غاية حبه مع ذل عابده هما قطبان
وعليهما فلك العبادة دائر ما دار حتى قامت القطبان
وكمال الحب ، وكمال الذل لا يكونان إلا لله تعالى ، وذلك لما يعتقده المسلم من اتصاف الله تعالى بكل صفات الكمال وتنزهه عن صفات النقص .
فالمسلم يعتقد أن الله تعالى غفور ، رحيم ، عفو ، كريم ، واسع العطاء ، ذو الفضل العظيم ، كل نعمة وصلت للإنسان فهي من الله ... إلخ فيحبه كمال الحب .
ويعتقد أن الله هو الملك ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، القهار ، فيخافه ويذل له غاية الذل .
وقد يذل الإنسان لشخص ولكنه لا يحبه ، فلا يكون ذله له عبادة ، وقد يحب شخصا أو شيئا ، ولكنه لا يذل له ، فلا يكون حبه له عبادة .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
"والعبادة أصل معناها : الذل ، يقال : طريق مُعَبَّد إذا كان مذللا قد وطئته الأقدام ، لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ، ومعنى الحب ، فهى تتضمن غاية الذل لله تعالى ، بغاية المحبة له .....
ومن خضع لإنسان مع بغض له ، فلا يكون عابدا ، ولو أحب شيئا ولم يخضع له لم يكن عابدا له ، كما قد يحب ولده وصديقه ، ولهذا لا يكفي أحدهما في عبادة الله ، بل يجب أن يكون الله أحب إلى العبد من كل شيء ، وأن يكون الله عنده أعظم من كل شيء ، بل لا يستحق المحبة والذل التام إلا لله" انتهى من العبودية (ص6) .

وبهذا يتبين أن مجرد الثناء على الشخص -ولو كان مبالغا فيه ، وكذلك محبة لعبة كرة القدم وكثرة لعبها - ليس ذلك عبادة لغير الله .
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
" الحمد: وصف المحمود بالكمال محبة وتعظيماً وإجلالاً، فإذا وصفت ربك بالكمال، فهذا هو الحمد، لكن لابد أن يكون مصحوباً بالمحبة والتعظيم والإجلال، لأنه إن لم يكن مصحوباً بذلك سمي مدحاً لا حمداً، ومن ثم نجد بعض الشعراء يمدحون بعض الناس مدحاً عظيماً بالغاً، لكن لو فتشت عن قلبه لوجدت أنه خال من محبة هذا الشخص، ولكنه يمدحه إما لرجاء منفعة، أو لدفع مضرة.
أما حمدنا لله عز وجل : فإنه حمد محبة وتعظيم وإجلال" انتهى من مجموع فتاوى ابن عثيمين (16/83) .
وقال أيضا عن الفرق بين الحمد والمدح :
"الصحيح أن بينهما فرقاً عظيماً. لأن الحمد مبني على المحبة والتعظيم.
والمدح لا يستلزم ذلك. فقد يبنى على ذلك، وقد لا يبنى، وقد أمدح رجلاً لا محبة له في قلبي ، ولا تعظيم، ولكن رغبة في نواله فيما يعطيني، مع أن قلبي لا يحبه ولا يعظمه.
أما الحمد فإنه لابد أن يكون مبنياً على المحبة والتعظيم.
ولهذا نقول في تعريف الحمد: هو وصف المحمود بالكمال محبةً وتعظيماً، ولا يمكن لأحد أن يستحق هذا الحمد على وجه الكمال ؛ إلا الله عز وجل" انتهى من مجموع فتاوى ابن عثيمين (24/453) .

ثانيا :
قد يصل الثناء على الشخص إلى حد الشرك بالله لو أعطاه من الصفات ما لا يستحقه إلا الله ، كعلم الغيب ، أو القدرة على كل شيء ، أو التصرف في الكون .. ونحو ذلك .
وقد وقع بعض الشعراء في الشرك بسبب مبالغتهم في وصف بعض الاشخاص وإعطائهم بعض صفات الله تعالى .
كما ذكر ابن كثير رحمه الله في ترجمة مُحَمَّد بْن هَانِئٍ الْأَنْدَلُسِيّ الشَّاعِر :
" كَانَ شَاعِرًا مُطَبِّقًا قَوِيَّ النَّظْمِ، إِلَّا أَنَّهُ كَفَّرَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ فِي مُبَالَغَاتِهِ فِي مَدَائِحِهِ، فَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ يَمْدَحُ الْمُعِزَّ الْفَاطِمِيّ - قَبَّحَهُمَا اللَّهُ -:
مَا شِئْتَ لَا مَا شَاءَتِ الْأَقْدَارُ ... فَاحْكُمْ فَأَنْتَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
وَهَذَا خَطَأٌ كَبِيرٌ، وَكُفْرٌ كَثِيرٌ " انتهى من البداية والنهاية (15/ 341) .

وقد روى البخاري (3445) عن عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ).
والإطراء: المبالغة في المدح .
قال ابن باز رحمه الله :
" نهى عن الزيادة في مدحه، والإطراء والغلو؛ لأن هذا قد يفضي إلى الشرك، ولهذا خاف على أمته عليه الصلاة والسلام نهاهم عن إطرائه كما فعلت النصارى حتى قالت في ابن مريم: إنه ابن الله، وحتى عبدوه من دون الله، بسبب الغلو والإطراء " انتهى من فتاوى نور على الدرب (2/ 214) .

فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن الغلو في شخصه ، وإطرائه ، ورفعه فوق قدره الذي أوجبه الله له ؛ فكيف يكون الغلو في مدح من سواه ، كائنا من كان ؟!
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ؛ فَإِنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِالْغُلُوِّ فِي الدِّينِ ) . رواه أحمد (3248) من حديث ابن عباس ، وإسناده صحيح .
قال الشيخ عبد الرحمن بن يحي المعلمي رحمه الله :
" من أوسع أودية الباطل الغلوّ في الأفاضل، ومن أَمْضى أسلحته أن يرمي الغالي كلَّ من يحاول ردَّه إلى الحق ببغض أولئك الأفاضل ومعاداتهم " انتهى من "آثار الملعمي" (9/110) .
وينظر أيضا للفائدة جواب السؤال رقم (75395) ورقم (201029) .

ثالثا :
قد يكون لعب الكرة مذموما إذا أسرف فيه الإنسان وضيع مصالحه الدينية والدنيوية .
كمن يلعب الكرة ويترك الصلاة أو يؤخرها عن وقتها ، أو يترك صلاتها جماعة أو يفطر في رمضان من أجل أن يقوى على اللعب أو يهمل عمله ومذاكرته ... ونحو ذلك ...
وينظر للفائدة الفتوى رقم (75644) ، (22305) .

ولكنه لا يقال في هذه الحالات : إنه قد عبد كرة القدم العبادة التي تخرجه من الإسلام ؛ ولكن يقال في هذا : إنه من اتباع الهوى ، الذي يصد عن ذكر الله وطاعته .
واتباع الهوى ليس على منزلة واحدة ، فمنه ما يكون كفرا أو شركا أكبر ، ومنه ما يكون كبيرة ، ومنه ما يكون صغيرة من الصغائر .
فإن اتبع هواه حتى قاده إلى تكذيب الرسول ، أو الاستهزاء به ، أو الإعراض عنه - كما هو واضح من سياق آيتي الفرقان والجاثية - فهذا مشرك شركا أكبر . وهكذا كل من قاده الهوى إلى ارتكاب ما دلت الأدلة على أنه شرك أكبر أو كفر أكبر ، كدعاء الأموات ، أو جحد المعلوم بالضرورة ، أو ترك الصلاة ، أو استحلال الزنا أو الخمر .
وإن اتبع هواه فحلف بغير الله تعالى ، أو راءى بعمله ، فهو مشرك شركا أصغر .
وإن اتبع هواه ففعل بدعة غير مكفّرة فهو مبتدع .
وإن اتبع هواه ففعل كبيرة كالزنا أو شرب الخمر من غير استحلال ، فهو فاسق .
وإن اتبع هواه ففعل صغيرة ، فهو عاص غير فاسق .

وبهذا تعلم أن اتباع الهوى يقود إلى أمور متفاوتة ، فلا يصح أن يقال : إن من اتبع هواه فهو كافر بإطلاق ، أو عابد له ـ العبادة الحقيقية ـ من دون الله .
وقد سبق تفصيل ذلك في جواب السؤال رقم (145466) ، فينظر للأهمية .

والله أعلم .

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب