الحمد لله.
أولًا:
فإن كلام الرازي منقول من تفسيره، (7/ 170)، لقوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) ، آل عمران .
وهو قوله في تفسير قوله: قائمًا بالقسط :
" معنى كونه قائما بالقسط قائما بالعدل، كما يقال: فلان قائم بالتدبير، أي يُجريه على الاستقامة.
واعلم أن هذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا، ومنه ما هو متصل بباب الدين .
أما المتصل بالدنيا : فانظر أولا في كيفية خلقة أعضاء الإنسان، حتى تعرف عدل الله تعالى فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحسن والقبح، والغنى والفقر والصحة والسقم، وطول العمر وقصره ، واللذة والآلام ، واقطع أن كل ذلك : عدل من الله ، وحكمة ، وصواب . ثم انظر في كيفية خلقه العناصر، وأجرام الأفلاك، وتقدير كل واحد منها بقدر معين ، وخاصية معينة ؛ واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب .
أما ما يتصل بأمر الدين : فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل، والفطانة والبلادة ، والهداية والغواية، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط ".
فإنه قد ذكر أن عدل الله تعالى، ينقسم إلى العدل الحاصل في أمور الدنيا، والعدل الحاصل في أمور الدين .
ومثَّل للعدل الحاصل في أمور الدنيا، بخلق الإنسان ، فإن الله تعالى خلقه معتدل الخلقة والقوام. وهكذا ذكر أن كل ما في الكون من تقدير الرب سبحانه عدل وحكمة ؛ فلو نظر الإنسان لخلق الأفلاك: كالشمس والقمر والكواكب، وكيف أن بعضها لا يطغى على بعض، وأن الشمس والقمر في فلك يسبحون، لا ينبغي للشمس أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار، لعلم عدل الله وحكمته.
ثانيًا:
يقول ابن القيم رحمه الله في تقرير ذلك المعنى : " فكل ما تراه في الوجود من شر وألم وعقوبة وجدب ، ونقص في نفسك وفي غيرك فهو من قيام الرب تعالى بالقسط ، وهو عدل الله وقسطه، وإن أجراه على يد ظالم ، فالمسلِّط له أعدل العادلين، كما قال تعالى لمن أفسد في الأرض بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد فجاسوا خلال الديار [الإسراء: 5] الآية" انتهى من " مدارج السالكين"(1/ 425).
ويقول: " وقوله تعالى: قَائِمًا بِالْقِسْطِ [آل عمران: 18] " القسط ": هو العدل ، فشهد الله سبحانه : أنه قائم بالعدل في توحيده، وبالوحدانية في عدله، والتوحيد والعدل هما جماع صفات الكمال، فإن التوحيد يتضمن تفرده سبحانه بالكمال والجلال ، والمجد والتعظيم الذي لا ينبغي لأحد سواه، والعدل يتضمن وقوع أفعاله كلها على السداد والصواب ، وموافقة الحكمة.
فهذا توحيد الرسل وعدلهم: إثبات الصفات، والأمر بعبادة الله وحده لا شريك له، وإثبات القدر والحكم، والغايات المطلوبة المحمودة بفعله وأمره، لا توحيد الجهمية والمعتزلة والقدرية، الذي هو إنكار الصفات ، وحقائق الأسماء الحسنى، وعدلهم، الذي هو: التكذيب بالقدر، أو نفي الحكم والغايات والعواقب الحميدة التي يفعل الله لأجلها ويأمر .
وقيامه سبحانه بالقسط في شهادته يتضمن أمور:
أحدها: أنه قائم بالقسط في هذه الشهادة التي هي أعدل شهادة على الإطلاق، وإنكارها وجحودها أعظم الظلم على الإطلاق، فلا أعدل من التوحيد ، ولا أظلم من الشرك، فهو سبحانه قائم بالعدل في هذه الشهادة ، قولا وفعلا، حيث شهد بها، وأخبر وأعلم عباده، وبين لهم تحقيقها وصحتها، وألزمهم بمقتضاها، وحكم به، وجعل الثواب والعقاب عليها، وجعل الأمر والنهي من حقوقها وواجباتها، فالدين كله من حقوقها، والثواب كله عليها، والعقاب كله على تركها.
وهذا هو العدل الذي قام به الرب تعالى في هذه الشهادة، فأوامره كلها تكميل لها، وأمر بأداء حقوقها، ونواهيه كلها صيانة لها عما يهضمها ويضادها، وثوابه كله عليها، وعقابه كله على تركها، وترك حقوقها، وخلقه السماوات والأرض وما بينهما كان بها ولأجلها، وهي الحق الذي خلقت به .
وضدها هو الباطل والعبث ، الذي نزه نفسه عنه، وأخبر: أنه لم يخلق به السماوات والأرض، قال تعالى - ردا على المشركين المنكرين لهذه الشهادة - (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ) [ص: 27] ، وقال تعالى: (حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ) [الأحقاف: 1 - 3] وقال: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ) [يونس: 5] ، وقال (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ) [الروم: 8] وقال: (وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ) [الدخان: 38 -39] . وهذا كثير في القرآن .
والحق الذي خلقت به السماوات والأرض ولأجله: هو التوحيد، وحقوقه ، من الأمر والنهي، والثواب والعقاب .
فالشرع والقدر، والخلق والأمر، والثواب والعقاب : قائم بالعدل، والتوحيد صادر عنهما، وهذا هو الصراط المستقيم الذي عليه الرب سبحانه وتعالى، قال تعالى - حكاية عن نبيه هود - (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ) [هود: 56] ؛ فهو سبحانه على صراط مستقيم في قوله وفعله، فهو يقول الحق، ويفعل العدل ( وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ )الأنعام /155، وقال تعالى (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) [الأحزاب/ 4] .
فالصراط المستقيم - الذي عليه ربنا تبارك وتعالى -: هو مقتضى التوحيد والعدل، قال تعالى: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [النحل: 76] فهذا مثل ضربه الله لنفسه وللصنم، فهو سبحانه الذي يأمر بالعدل، وهو على صراط مستقيم، والصنم مثل العبد الذي هو كل على مولاه، أينما يوجهه لا يأت بخير.
والمقصود: أن قوله تعالى: (قَائِمًا بِالْقِسْطِ) [آل عمران: 18] هو كقوله: (إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [هود: 56]".
وينظر كلام ابن القيم بتمامه، وهو طويل نفيس مهم في "مدارج السالكين"(3/ 423)، وينظر أيضا : "مجموع الفتاوى" لابن تيمية (14/ 175).
والله أعلم .
تعليق