الحمد لله.
صفة العلم لله سبحانه أوسع من صفة السمع والبصر.
فعلم الله جل جلاله، متعلق بكل شيء، بالمسموع، والمبصر، والممكن، والمستحيل، والموجود، والمعدوم؛ فالله جل جلاله: وَاسِعٌ عَلِيمٌ البقرة/115 ، والله تعالى : ( بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) البقرة/231.
قال الشيخ صالح آل الشيخ، حفظه الله: " وهذا فيه إثبات أن متعَلّق العلم هو كل شيء ، قد تقدم لك أن كلمة ( شيء ) في نصوص الكتاب والسنة أنها تفسر بأنها ( ما يصح أن يُعلم ) " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ما يصح أن يعلم ، سواء أكان واقعا أم لم يكن واقعا ، سواء أكان ماضيا أم كان حاضرا أم مستقبلا ، وسواء أكان مقدَّرا أم حاضرا ـ يعني غير مقدر ـ
إذن قوله " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " هذا يشمل كل شيء ، ولهذا استدل به أهل العلم من الصحابة فمن بعدهم على بطلان قول القدرية الذين يقولون إن الأمر أنُف ـ مستأنف ـ وأن الله جل جلاله لا يعلم الأشياء إلا بعد وقوعها تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، وكذلك رُد به قول طائفة من الفلاسفة الذين يقولون إن الله يعلم الأمور الكلية دون التفصيلات والجزئيات ، كل هذا يرده قوله " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ" انتهى من "شرح العقيدة الواسطية" (143).
وقوله تعالى: (أحاط بكل شيء علماً) يفيد أنه ما من شيء من الخلق إلا وقد أحاط به علم الرب جل وعلا.
قال ابن كثير في تفسيره (6/ 263): "وَاللَّهُ سبحانه وتعالى يَعْلَمُ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ عِنْدَ أَئِمَّةِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ".
وفي معارج القبول (3/920): "الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِعِلْمِ اللَّهِ عز وجل الْمُحِيطِ بِكُلِّ شَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ وَالْمَعْدُومَاتِ وَالْمُمْكِنَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، فَعَلِمَ مَا كَانَ وَمَا يَكُونُ وَمَا لَمْ يَكُنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ". انتهى
يقول الشيخ ابن عثيمين في بيان سعة علم الله:
"قد أحاط بكل شيء علما، أحاط بكل شيء مما مضى، ومما هو حاضر، ومما هو مستقبل، سواء كان ذلك مما يتعلق بأفعاله عز وجل، أو بأفعال عباده، فهو محيط بها جملة وتفصيلا بعلمه الذي هو موصوف به أزلا وأبدا"، انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" (2/ 81).
وأما صفة السمع؛ فهي متعلقة بالأصوات، سرِّها وعلنها، وما يتعلق بالسمع: هو القول ونحوه، مما فيه صوت. قال تعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ آل عمران/181.
وقال جل ذكره: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ المجادلة/1.
وفي صحيح البخاري معلقا (9/117) عن عائشة رضي الله عنها قالت: " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات" .
فالسمع متعلق بالأصوات، كما صرحت به أم المؤمنين عائشة، رضي الله عنها، وكما هو صريح المعقول.
يقول العلامة الشيخ عبد الرحمن السعدي، رحمه الله:
" وكثيراً ما يقرن الله بين (السميع البصير) مثل قوله وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً 2 فكل من السمع، والبصر محيط بجميع متعلقاته الظاهرة والباطنة.
فالسميع: الذي أحاط سمعه بجميع المسموعات. فكل ما في العالم العلوي والسفلي من الأصوات: يسمعها، سرها وعلنها، وكأنها لديه صوت واحد، لا تختلف عليه الأصوات، ولا تخفى عليه جميع اللغات.
والقريب منها والبعيد، والسر والعلانية: عنده سواء: سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ، قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ.
قالت عائشة رضي الله عنها: "تبارك الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة تشتكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب الحجرة وإنه ليخفي عليَّ بعض كلامها فأنزل الله قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا." انتهى، من "تفسير أسماء الله الحسنى" (175).
وقال الشيخ محمد خليل الهراس، رحمه الله: " وَمَعْنَى السَّمِيعُ : الْمُدْرِكُ لِجَميعِ الْأَصْوَاتِ مَهْمَا خَفَتَتْ، فَهُوَ يَسْمَعُ السِّرَّ وَالنَّجْوَى بِسَمْعٍ هُوَ صِفَةٌ لَا يُمَاثِلُ أَسْمَاعَ خَلْقِهِ." انتهى، من "شرح العقيدة الواسطية" (97).
وقال الشيخ ابن عثيمين، رحمه الله: " والسمع المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:
1 - سمع يتعلق بالمسموعات، فيكون معناه إدراك الصوت.
2 - وسمع بمعنى الاستجابة، فيكون معناه أن الله يجيب من دعاه، لأن الدعاء صوت ينطلق من الداعي، وسمع الله دعاءه، يعني: استجاب دعاءه، وليس المراد سمعه مجرد سماع فقط، لأن هذا لا فائدة منه، بل الفائدة أن يستجيب الله الدعاء.
فالسمع الذي بمعنى إدراك الصوت ثلاثة أقسام:
أحدها: ما يقصد به التأييد.
والثاني: ما يقصد به التهديد.
والثالث: ما يقصد به بيان إحاطة الله سبحانه وتعالى.
1 - أما ما يقصد به التهديد، فكقوله تعالى: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ [الزخرف: 80]، وقوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران: 181].
2 - وأما ما يقصد به التأييد، فكقوله تعالى لموسى وهارون: قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه: 46]، أراد الله عز وجل أن يؤيد موسى وهارون بذكر كونه معهما يسمع ويرى، أي: يسمع ما يقولان وما يقال لهما، ويراهما ومن أرسلا إليه، وما يفعلان، وما يفعل بهما.
3 - وأما ما يقصد به بيان الإحاطة، فمثل هذه الآية، وهي: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة: 1]."انتهى، من "شرح العقيدة الواسيطة" (1/323-324).
ثانيا:
وبناء على ذلك:
فكل ما يقع في الكون، يعلمه الله جل جلاله، سواء كان هذا صوتا، أو لم يكن صوتا.
فإذا كان صوتا، سمعه أيضا، مع علمه به سبحانه.
وفي بعض النصوص يعبر عن أقوال الناس: أن الله يعلمها؛ وهذا حق، وظاهر أيضا؛ فإن الله بكل شيء عليم، والأصوات من جملة هذه الأشياء التي يعلمها الله.
قال تعالى : أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَالبقرة/77.
وقال جل ذكره: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ البقرة/235.
وقال سبحانه: وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ الأنعام/3
وقال: اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ*عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ الرعد/8-9.
وقد أخبر عن علمه بالأصوات والأقوال فقال تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى طه/ 7، وقال: قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ الأنبياء/4، وقال سبحانه: إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ الأنبياء/110، وقال تعالى: وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ الملك/13- 14.
فهو سبحانه سميع للأصوات جهرها وسرها، عليم بها وبما أكنّته الضمائر مما لم يحصل التحديث به .
قال الشيخ ابن سعدي :
"وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ الكلام الخفي وَأَخْفَى من السر الذي في القلب ولم ينطق به أو السر ما خطر على القلب وأخفى مما لم يخطر يعلم تعالى أنه يخطر في وقته وعلى صفته.
المعنى : أن علمه تعالى محيط بجميع الأشياء دقيقها وجليلها خفيها وظاهرها فسواء جهرت بقولك أو أسررته فالكل سواء بالنسبة لعلمه تعالى" انتهى من "تفسير السعدي" ص(501).
وبهذا يتبين الجواب عن السؤال؛ فإذا أسر الإنسان شيئا في نفسه، فله صورتان:
ألا يتكلم بذلك الشيء قط، فهذا يعلمه الله جل جلاله.
وإن تكلم به، ولو بأدنى صوت، وأدنى كلام؛ فإن الله تعالى يعلمه، ويسمعه أيضا.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:
اجْتَمَعَ عِنْدَ الْبَيْتِ قُرَشِيَّانِ وَثَقَفِيٌّ ، أَوْ ثَقَفِيَّانِ وَقُرَشِيٌّ ، كَثِيرَ شَحْمُ بُطُونِهِمْ ، قَلِيلَ فِقْهُ قُلُوبِهِمْ ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمْ : أَتُرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ مَا نَقُولُ ؟ قَالَ الْآخَرُ : يَسْمَعُ إِنْ جَهَرْنَا ، وَلَا يَسْمَعُ إِنْ أَخْفَيْنَا . وَقَالَ الْآخَرُ : إِنْ كَانَ يَسْمَعُ إِذَا جَهَرْنَا ، فَإِنَّهُ يَسْمَعُ إِذَا أَخْفَيْنَا !
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ رواه البخاري (4443)، ومسلم (4979) .
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (126406).
والله أعلم .
تعليق