الأحد 21 جمادى الآخرة 1446 - 22 ديسمبر 2024
العربية

شمول الشريعة الإسلامية لما يحتاجه الناس في جميع القضايا

السؤال

هل الشريعة الإسلامية تحوي حلول لكل من القضايا السياسية والاجتماعية والاقتصادية بتفاصيل تلك الأمور واذا حدثت قضية غير موجدة بالشرع الإسلامي من أين تستمد؟

الجواب

الحمد لله.

أولا:

الشريعة التي أنزلها الله تعالى على عباده تستوعب كل ما يحتاجه الناس في عقائدهم، وعباداتهم، ومعاملاتهم؛ لأنها الشريعة الخاتمة، المبعوث بها النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم، إلى الناس كافة، فلا نبي بعده، ولا شريعة بعد شريعته، حتى إن عيسى عليه السلام إذا نزل آخر الزمان حكم بها.

ومن تدبر القرآن، ونظر في السنة، وفي كتب الفقه والنوازل: علم ذلك يقينا.

فالأحكام إما منصوص عليها نصا في الكتاب والسنة، وهذا يدخل تحته أصول الأحكام، وأكثر ما يحتاجه الناس من مفرداتها.

وإما غير منصوص عليها، لكن يمكن للفقيه الوقوف على حكمها من خلال الأدلة الشرعية الأخرى، كآثار الصحابة، أو القياس على الأحكام المنصوصة، أو الاستصحاب، أو المصالح المرسلة أو سد الذرائع.

ولهذا قال الله تعالى:   أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ  الأنعام/ 114.

وقال الله تعالى:   وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ   النحل/ 89.

وفي الحديث:  ليسَ مِنْ عمَلٍ يُقرِّبُ مِنَ الجنَّةِ إلا قد أمْرتُكم به، ولا مِنْ عَملٍ يقرِّبُ إلى النارِ إلا وقد نهْيتُكُم عنه، فلا يسْتَبْطِئَنَّ أحدٌ منكم رزقَه؛ فإنَّ جبريلَ ألْقى في رُوعي: أنَّ أحَداً منكم لنْ يخرُجَ مِنَ الدنيا حتَّى يَسْتَكْمِل رزْقَهُ، فاتَّقوا الله أيُّها الناسُ! وأجْمِلوا في الطلَبِ، فإنِ اسْتَبْطَأ أحدٌ منكم رزقَه فلا يطْلُبْهُ بمعصيةِ الله؛ فإنَّ الله لا يُنالُ فضلُه بمعْصِيَتهِ .

أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (34332)، والحاكم في المستدرك (2 / 5) وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1700).

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " الأحكام الشرعية تنقسم إلى قسمين:

قسم نص عليه الشارع بعينه: مثل: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [المائدة:3] إلى آخره، ومثل قوله تعالى: وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ [النساء:24] يعني: من النساء، والأمثلة على هذا كثيرة.

وقسم آخر لا ينص عليه بعينه، ولكن يذكره في القواعد العامة من الشريعة، والأدلة العامة من الشريعة، وذلك لأن الشريعة شاملة عامة لكل شيء، ولا يمكن أن يُنَصَّ على كل مسألة بعينها؛ لأن هذا يستدعي أسفاراً كثيرة لا تحملها الجمال ولا السيارات.

ولكن هناك قواعد عامة يُنْعِم الله على من يشاء من عباده، فيستطيعون أن يُلْحِقوا الجزئيات بأحكام هذه القواعد العامة، مثل: (لا ضرر ولا ضرار) مثلاً، هذا حديث وإن كان في صحته نظر، لكن قواعد الشريعة تشهد له، فيمكن أن تدخل في هذا آلاف المسائل التي فيها الضرر، وآلاف المسائل التي فيها المضارة دون أن يُنَصَّ عليه.

فمثلاً: في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كان بين رجلين خصومة، وكان أحدهما له أرضان، وبينهما أرض الآخر، فأراد صاحب الأرضَين أن يجري الماء على أرض الآخر إلى أرضه الأخرى، فأبى صاحب الأرض وقال: لا يمكن أن تجري الماء على أرضي، فرُفِع الأمرُ إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فأمر أن يُجْرَى الماء على أرضه قهراً عليه، وقال: "لأجرينه ولو على بطنك، أو قال: على ظهرك"؛ لأن هذا الجار الذي أبى أن يمر الماء من أرضه، إنما أراد المضارة بصاحبه، وإلا فالمصلحة له، يعني: يتمكن من أن يغرس على هذا الماء الذي يجري، أو يزرع عليه فهو مصلحة للطرفين" انتهى من لقاء الباب المفتوح (122/ 18).

والآيات التي ذكرناها يفهم منها أن القرآن- وحده-  فيه بيان كل ما يحتاجه الناس، وهذا له وجهان عند أهل العلم:

أحدهما: أن القرآن تضمن حجية السنة والإجماع والقياس، فكل ما ثبت بهذه الأدلة يصح أن يقال: إن القرآن دل عليه.

والثاني: أن القرآن نفسه يتضمن بيان ذلك بوجه من الوجوه، ولو بالإبقاء على البراءة الأصلية في بعض المسائل.

ومع أن المقام هنا ليس في إثبات إحاطة القرآن بالأحكام، بل في بيان أن الشريعة بمصادرها المعتبرة تستوعب الأحكام، ولكنا نذكر للفائدة ما قرره الرازي في الوجه الثاني ، بعد أن ذكر أن الوجه الأول هو قول جمهور الفقهاء .

قال الرازي رحمه الله: " أما قوله إن هذا الكتاب غير مشتمل على جميع علوم الأصول والفروع.

فنقول: أما علم الأصول فإنه بتمامه حاصل فيه؛ لأن الدلائل الأصلية مذكورة فيه على أبلغ الوجوه.

فأما روايات المذاهب وتفاصيل الأقاويل، فلا حاجة إليها.

وأما تفاصيل علم الفروع فنقول: للعلماء هاهنا قولان:

الأول: أنهم قالوا إن القرآن دل على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حجة في الشريعة، فكل ما دل عليه أحد هذه الأصول الثلاثة، كان ذلك في الحقيقة موجودا في القرآن.

وذكر الواحدي رحمه الله لهذا المعنى أمثلة ثلاثة:

المثال الأول: روي أن ابن مسعود كان يقول: مالي لا ألعن من لعنه الله في كتابه، يعني الواشمة، والمستوشمة، والواصلة، والمستوصلة. وروي أن أمرأة قرأت جميع القرآن، ثم أتته فقالت: يا ابن أم عبد، تلوت البارحة ما بين الدفتين، فلم أجد فيه لعن الواشمة والمستوشمة؟ فقال: لو تلوتيه لوجدتيه؛ قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) [الحشر: 7]، وإن مما أتانا به رسول الله، أنه قال: لعن الله الواشمة والمستوشمة.

وأقول: يمكن وجدان هذا المعنى في كتاب الله بطريق أوضح من ذلك، لأنه تعالى قال في سورة النساء: (وإن يدعون إلا شيطانا مريدا * لعنه الله) [النساء: 117، 118]، فحكم عليه باللعن، ثم عدد بعده قبائح أفعاله، وذكر من جملتها قوله: (ولآمرنهم فليغيرن خلق الله) [النساء: 119]، وظاهر هذه الآية يقتضي أن تغيير الخلق يوجب اللعن.

المثال الثاني: ذُكر أن الشافعي رحمه الله كان جالسا في المسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شيء إلا أجبتكم فيه من كتاب الله تعالى فقال رجل: ما تقول في المحرم إذا قتل الزنبور؟

فقال: لا شيء عليه. فقال: أين هذا في كتاب الله؟ فقال: قال الله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه)، ثم ذكر إسنادا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي، ثم ذكر إسنادا إلى عمر رضي الله عنه أنه قال: للمحرم قتل الزنبور.

قال الواحدي: فأجابه من كتاب الله مستنبَطا بثلاث درجات.

وأقول: هاهنا طريق آخر أقرب منه، وهو أن الأصل في أموال المسلمين العصمة. قال تعالى: (لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت) [البقرة: 286]، وقال: (ولا يسئلكم أموالكم) [محمد: 36]، وقال: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) [النساء: 29] ؛ فنهى عن أكل أموال الناس إلا بطريق التجارة ، فعند عدم التجارة : وجب أن يبقى على أصل الحرمة. وهذه العمومات تقتضي أن لا يجب على المُحْرم الذي قتل الزنبور شيء، وذلك لأن التمسك بهذه العمومات يوجب الحكم بمرتبة واحدة ...

المثال الثالث: قال الواحدي: روي في حديث العسيف الزاني، أن أباه قال للنبي صلى الله عليه وسلم: اقض بيننا بكتاب الله ؟

فقال عليه السلام: والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله، ثم قضى بالجلد والتغريب على العسيف، وبالرجم على المرأة إن اعترفت.

قال الواحدي: وليس للجلد والتغريب ذكر في نص الكتاب، وهذا يدل على أن كل ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم، فهو عين كتاب الله.

وأقول: هذا المثال حق، لأنه تعالى قال: (لتبين للناس ما نزل إليهم) [النحل: 44]، وكل ما بينه الرسول عليه السلام كان داخلا تحت هذه الآية.

فثبت بهذه الأمثلة أن القرآن لما دل على أن الإجماع حجة، وأن خبر الواحد حجة، وأن القياس حجة، فكل حكم ثبت بطريق من هذه الطرق الثلاثة، كان في الحقيقة ثابتا بالقرآن، فعند هذا يصح قوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء).

هذا تقرير هذا القول، وهو الذي ذهب إلى نصرته جمهور الفقهاء...

والقول الثاني: في تفسير هذه الآية، قول من يقول: القرآن واف ببيان جميع الأحكام.

وتقريره أن الأصل براءة الذمة في حق جميع التكليف، وشغل الذمة لا بد فيه من دليل منفصل، والتنصيص على أقسام ما لم يرد فيه التكليف ممتنع، لأن الأقسام التي لم يرد التكليف فيها غير متناهية، والتنصيص على ما لا نهاية له محال، بل التنصيص إنما يمكن على المتناهي.

مثلا لله تعالى ألف تكليف على العباد، وذكره في القرآن، وأمر محمدا عليه السلام بتبليغ ذلك الألف إلى العباد. ثم قال بعده: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)؛ فكان معناه أنه ليس لله على الخلق بعد ذلك الألف: تكليف آخر، ثم أكد هذه الآية بقوله: (اليوم أكملت لكم دينكم) [المائدة: 3] وبقوله: (ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين) [الأنعام: 59]، فهذا تقرير مذهب هؤلاء، والاستقصاء فيه إنما يليق بأصول الفقه. والله أعلم" انتهى من "تفسير الرازي"(12/ 527، 528).

تنبيه :

قوله تعالى : (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) الأنعام/38،  الصحيح أن المراد بالكتاب هنا اللوح المحفوظ، الذي كتب الله تعالى فيه مقادير الخلائق ، وهو المروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية .

لكن يغني عن هذه الآية في الاستدلال هنا قوله تعالى :  وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ   النحل/ 89.

 ينظر : "تفسير ابن جرير "(9/234) ، "تفسير ابن كثير" (3/253) ، "السعدي" (ص 255) .

ثانيا:

إذا نزلت نازلة لم يُنص عليها في كتاب الله تعالى، أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كبعض قضايا الطب والاقتصاد ونحوهما، كقضايا التلقيح الصناعي، والهندسة الوراثية، والتعامل بالعملات الكترونية مثلا؛ فإن أهل العلم يجتهدون في الحكم عليها، قياسا واستنباطا، وإعمالا للقواعد العامة، ومراعاة لمقاصد الشريعة.

ومهما كانت القضية، فإنه يمكن لأهل العلم الوصول إلى حكمها شرعا، ولو باستصحاب أصل الإباحة، أو المنع، عند عدم الدليل الناقل، ولا يمكن أن توجد مسألة لا حكم لها في الشريعة الإسلامية .

وينظر للفائدة: "تفسير أضواء البيان" للشنقيطي، عند قول الله تعالى :  إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ  الإسراء/9

والحاصل:

أن الشريعة وافية بما يحتاجه الناس من أحكام في جميع شئونهم، لأنها الشريعة الخاتمة، للدين التام الكامل، كما قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) المائدة/3

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب