الجمعة 10 شوّال 1445 - 19 ابريل 2024
العربية

حكم ما يسميه الصوفية بالرابطة عند الذكر

305329

تاريخ النشر : 04-08-2019

المشاهدات : 16514

السؤال

عندنا في منطقتنا الصوفية يفعلون ما يسمى الرابطة ، والرابطة : بعد صلاة المغرب يغمض الصوفي عيونه ويتخيل صورة شيخ الطريقة ، ثم يستغفر الله ٢٥ مرة ، ثم يفتح عينيه ، ويقولون : الرابطة تصفي القلب ، ونحو هذه الفوائد ، ويستدلون على ذلك بأدلة في مقال لهم على الفيس بوك ، فما صحة هذا الأمر ؟

الجواب

الحمد لله.

أولا :

الدعاء من أجلّ العبادات وأفضل القربات ، فعلى الداعي أن يتأدب بآداب الدعاء ، التي منها : أن لا يعتدي فيه ؛ فإن الله لا يحب المعتدين.

ومن الاعتداء فيه أن يتعهد دعاءً مخترعا يدعو به ، ويجعله وردا له ، يلازمه ملازمة الأوراد الشرعية ، ويدعي له الفضل والأثر الصالح ، وقرب الإجابة من الله ، ثم يحث عليه ، ويدعو الناس إليه ، حتى يصير عنده بمنزلة الأوراد والأدعية الشرعية أو أفضل .

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :

" لا ريب أن الأذكار والدعوات من أفضل العبادات ، والعبادات مبناها على التوقيف والاتباع لا على الهوى والابتداع ، فالأدعية والأذكار النبوية هي أفضل ما يتحراه المتحري من الذكر والدعاء ، وسالكها على سبيل أمان وسلامة ، والفوائد والنتائج التي تحصل لا يعبر عنه لسان ولا يحيط به إنسان ، وما سواها من الأذكار قد يكون محرما وقد يكون مكروها وقد يكون فيه شرك مما لا يهتدي إليه أكثر الناس .

وليس لأحد أن يسن للناس نوعا من الأذكار والأدعية غير المسنون ، ويجعلها عبادة راتبة يواظب الناس عليها كما يواظبون على الصلوات الخمس ؛ بل هذا ابتداع دين لم يأذن الله به .

وفي الأدعية الشرعية والأذكار الشرعية غاية المطالب الصحيحة ، ونهاية المقاصد العلية ، ولا يعدل عنها إلى غيرها من الأذكار المحدثة المبتدعة إلا جاهل أو مفرط أو متعد".

انتهى ملخصا من "مجموع الفتاوى" (22 /510-511) .

وينظر جواب السؤال رقم : (209224) .

ثانيا:

"ورد الرابطة"، أو "دعاء الرابطة": هو من الأدعية المعروفة عند بعض الطرق الصوفية، ومن تأثر بها من الجماعات.

وهذا الدعاء، في نفسه: ليس فيه ما يستنكر من حيث ألفاظه، ومعانيه التي تضمنها.

وإنما المشكل فيه اتخاذه وردا للطريقة والجماعة، على ترتيب معين، لم ترد السنة بمثله، وقد سبق في كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله المنع من ترتيب الأوراد غير المسنونة، والتزامها على هيئة الأذكار والأوراد الشرعية المسنونة.

وقد سئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله:

"بعض الناس لهم ورد دعاء يلتزمون به صباحاً ومساءً، بأن يدعو أحدهم، ويؤمّن الباقون على هذا الدعاء بصوت مرتفع، ويسمى ورد الرابطة، ونصه هو:

(اللهم إنك تعلم أن هذه القلوب قد اجتمعت على محبتك، والتقت على طاعتك، وتوحدت على دعوتك؛ فوثق اللهم رابطتها، وأدم ودها، واهدها سبلها، واملأها بنورك الذي لا يخبو، واشرح صدورها بفيض الإيمان بك وجميل التوكل عليك، وأحيها بمعرفتك، وأمِتها على الشهادة في سبيلك، إنك نعم المولى ونعم النصير)، فما حكم هذا؟

فأجاب:

"هذا الدعاء لا بأس به ، دعاءٌ لا ينافي ما جاءت به السنة، وإن كان بلفظه لم يرد، لكن معناه صحيح.

وأما الاجتماع عليه أو على غيره من الأدعية الواردة عن النبي عليه الصلاة والسلام، واتخاذ ذلك راتبة بعد كل صلاة ، أو بعد صلاة الفجر، أو بعد صلاة المغرب بدعة؛ لأن هذا لم يفعل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الصحابة.

وكل عبادةٍ يتعبد بها الإنسان، لم تُفعل في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، ولا في عهد أصحابه: فإنها بدعة، وكل بدعةٌ ضلالة، فيُنهى عن ذلك.

ويقال: بدلاً من أن تجتمعوا على هذا الدعاء بصوتٍ مرتفع، وتؤمّنوا عليه؛ كل أحد منكم يدعو لنفسه بما تيسر..." انتهى، من "لقاءات الباب المفتوح" (30/11).
ثالثا:

مما يشكل على هذا الدعاء، وأمثاله: من أوراد الطرق والأحزاب: أن تنحصر (الرابطة) في وعي هؤلاء الأتباع إلى رابطة (الطريقة) أو (الحزب) أو (المذهب) أو (الجماعة)، وتكون هي الرابطة التي يتعلق بها الداعي، أو التابع، وهي التي يدعو بها ، وتتشكل في عقله ، ووجدانه .

ومعلوم ما في هذا من التحزب، وما له من آثار على علاقته بإخوانه المؤمنين، وتحول أصل الموالاة والمعاداة، والمقاربة والمفارقة، من الإيمان والعمل الصالح، الجامع للمؤمنين كلهم، إلى (الانتماء) إلى الحزب ، والمذهب ، والطريقة ؛ وقد قال الله تعالى : ( إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ ) الحجرات/10، وقال تعالى: ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ) آل عمران/103

وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (114926) ، ورقم : (216483)  .

رابعا:

قد ساق صاحب المقال المشار إليه ، هداه الله تعالى ، قول الألوسي والذي ينص فيه صراحة على عدم وجود دليل من الكتاب والسنة؛ على هذه الرابطة؛ حيث قال:

" وقالوا - أي طائفة النقشبندية - : بالرابطة ليتهيأ ببركتها القلب لما يفاض عليه، ولا أعلم لثبوت ذلك دليلا يُعوّل عليه عن الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم، ولا عن خلفائه رضي الله تعالى عنهم، وكل ما يذكرونه في هذه المسألة ويعدونه دليلا: لا يخلو عن قادح بل أكثر تمسكاتهم فيها تشبه التمسك بحبال القمر، ولولا خوف الإطناب لذكرتها مع ما فيها... " انتهى.

وهذا النقد الكلي لاستدلال هؤلاء على "رابطتهم" كاف في هذا المقام، من عالم مكين، كالألوسي رحمه الله، مع مخالطته للقوم، ومعرفته بأعمالهم، وتصانيفهم.

ولا شك عند كل منصف: أن من تأمل أقوالهم واستدلالهم لوردهم المزعوم: وجده كبيت العنكبوت في وهائه، وعدم اعتماده على طرائق أهل العلم في الفهم والاستدلال، ويكفي أن تقرأ ما شئت من كتب التفسير، وشروح الحديث، والفقه ، والأدعية والأذكار: فهل تجد لمثل هذه الاستدلالات أثرا؟ أو: هل تجد من سبق هؤلاء إلى استنباط ذلك من النصوص التي يلوون أعناقها، ويشبهون على من لا علم له بها؟!

ومتى لم تجد لذلك أثرا، وأنت غير واجد إن شاء الله؛ كفاك ذلك لتعلم بطلان استدلالهم، وأنه من باب تحريف الكلم عن مواضعه، وليس من باب اعتماد دلالات النصوص، على طرائق أهل العلم.

ومن أمثلة ذلك التحريف لمواضع النصوص: حديث أَسْمَاءَ بِنْتِ يَزِيدَ، أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ؟

قَالُوا: بَلَى، يَا رَسُولَ اللَّهِ!

قَالَ: خِيَارُكُمْ الَّذِينَ إِذَا رُؤوا، ذُكِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ ). رواه ابن ماجه (4119) وأحمد في "المسند" (45 / 575) وحسنه محققو المسند بشواهده.

فالذي يدل عليه الحديث، على القول بصحته: أن القدوة الحسنة تؤثر فيمن حولها في الاجتهاد في ذكر الله تعالى وعبادته وطاعته.

لكن: ما علاقة ذلك بالرابطة المزعومة، واستحضار صور أهل الرابطة؟ سبحانك، هذا بهتان عظيم!!

ومثل ذلك حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( هَلْ تَرَوْنَ قِبْلَتِي هَا هُنَا؟ وَاللَّهِ مَا يَخْفَى عَلَيَّ رُكُوعُكُمْ وَلاَ خُشُوعُكُمْ ، وإِنِّي لَأَرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي ) رواه البخاري (741) ، ومسلم (424).

فهذا من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم التي أكرمه الله بها ، ولا علاقة له من قريب ولا من بعيد بالرابطة المزعومة، ولا علاقة له بوقتها، ولا كيفيتها بوجه من وجوه الدلالة الأصولية عند العلماء.

وقد سئل الإمام أحمد رحمه الله ، " عن تفسير قول النبي : ( إني أراكم من وراء ظهري ) ؟

فقال : كان يرى مَنْ خلفه .

قيل : أفليس هذا له خاص ؟

قال : بلى" . انتهى، من "السنة" للخلال (218)، وينظر: "الجامع لعلوم الإمام أحمد" (4/103).

وقال ابن عبد البر رحمه الله:

"وقد تأول قوم أن " أرى " هنا بمعنى أعلم، كما قال - عز وجل - حاكيا عن شعيب - عليه السلام - وكان أعمى - "إني أراكم بخير " [ هود: 84 ]؟

وأرى بمعنى أعلم، معلوم في لسان العرب، فأراد بقوله أراكم: أعلم خشوعكم وتمام ركوعكم، بما يخفى عنكم، ويُلقي الله في قلبي معرفة أحوالكم؟

قال أبو عمر: هذه دعوى فيها تحديد لمخالفة الظاهر، وغير نكير أن يكون ذلك برؤية العين، كسائر ما أُعطيه من خرق العادة، وأعلام النبوة ... ؛ وإن كان لا سبيل إلى كيفيته ، وهو علم من أعلام نبوته." انتهى، من "الاستذكار" (6/273-274).

والحاصل: أن بين الحديث المذكور، والورد المزعوم : بعد المشرقين، وإيراده في هذا المقام: هو من التلبيس المحض، وتحريف الكلم عن مواضعه.

وأمّا قوله تعالى:( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) المائدة /35.

فهذه الآية لا تدلّ على الرابطة المزعومة، بل تدلّ على فعل الطاعات والعبادات المشروعة التي توصل إلى رضوان الله تعالى.

قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:

" قال في "مختار الصحاح": "الوسيلة: ما يتقرب به إلى الغير، والجمع الوَسِيل والوسائل، والتوسّل والتوسيل واحد، يقال: وسّل فلان إلى ربه وسيلة بالتشديد، وتوسّل إليه الوسيلة إذا تقرب إليه بعمل".

ومن هنا نعلم أنه لا دلالة في قوله تعالى: ( يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ )، إلا على الأمر بابتغاء ما يتقرب به إلى الله، وهو أمر مجمل لا يؤخذ بيانه إلا من الشرع، فمن ادّعى في شيء من الأشياء أنه يتقرّب به إلى الله تعالى كُلِّف بإبراز حجة من كتاب الله تعالى أو سنة رسوله " انتهى من " آثار الشّيخ العلّامة عبد الرّحمن المعلّمي" (4 / 260).

وينظر أيضا للفائدة: جواب السؤال رقم : (60041) .

وهكذا عامة ما يذكرون، ويدعون في هذا المقام، هي على هذا النسق من تحريف الكلم عن مواضعه؛ والله عند قلب كل قائل، ولسانه.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب