الحمد لله.
الحديث عن علامات النبوة وأشراط الساعة لا يجوز إلا بنص صحيح صريح
الحديث عن علامات النبوة من أخبار الغيب ، وكذلك أشراط الساعة : لا يجوز إلا بنص صحيح صريح ، ومن تكلم فيه بالظنون فقد تقول على الله بلا علم ، فهذه الأمور من أمور الغيب التي استأثر الله بعلمها ، وأخبر بها نبيه صلى الله عليه وسلم .
وأما ما ذكره السائل فقد ذكره بعض المعاصرين ، متأولا فيه حديثا صحيحا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، إلا أن هذا التأويل لا يصح .
وهذا الحديث أخرجه الترمذي في "سننه" (2181) ، وأحمد في "مسنده" (11792) ، من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال :" عَدَا الذِّئْبُ عَلَى شَاةٍ ، فَأَخَذَهَا فَطَلَبَهُ الرَّاعِي ، فَانْتَزَعَهَا مِنْهُ ، فَأَقْعَى الذِّئْبُ عَلَى ذَنَبِهِ ، قَالَ: أَلَا تَتَّقِي اللَّهَ ، تَنْزِعُ مِنِّي رِزْقًا سَاقَهُ اللَّهُ إِلَيَّ ، فَقَالَ: يَا عَجَبِي ذِئْبٌ مُقْعٍ عَلَى ذَنَبِهِ ، يُكَلِّمُنِي كَلَامَ الْإِنْسِ ، فَقَالَ الذِّئْبُ: أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَعْجَبَ مِنْ ذَلِكَ؟ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَثْرِبَ يُخْبِرُ النَّاسَ بِأَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ ، قَالَ: فَأَقْبَلَ الرَّاعِي يَسُوقُ غَنَمَهُ ، حَتَّى دَخَلَ الْمَدِينَةَ ، فَزَوَاهَا إِلَى زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَاهَا ، ثُمَّ أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ ، فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَنُودِيَ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ ، ثُمَّ خَرَجَ ، فَقَالَ لِلرَّاعِي: أَخْبِرْهُمْ ، فَأَخْبَرَهُمْ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: صَدَقَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُكَلِّمَ السِّبَاعُ الْإِنْسَ ، وَيُكَلِّمَ الرَّجُلَ عَذَبَةُ سَوْطِهِ ، وَشِرَاكُ نَعْلِهِ ، وَيُخْبِرَهُ فَخِذُهُ بِمَا أَحْدَثَ أَهْلُهُ بَعْدَهُ .
والحديث صححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة" (122)
ومعنى الحديث ظاهر في كون هذه الأشياء من علامات الساعة ، وهي :
أن تكلم السباعُ الإنسَ ، وأن يكلم طرفُ السوط وشراكُ النعل صاحبه ، وأن ينطق الفخذ بما أحدثه أهله من بعده .
قال المباركفوري في "تحفة الأحوذي" (6/340) :" قَوْلُهُ ( حَتَّى تُكَلَّمَ السِّبَاعُ ) أَيْ سِبَاعُ الْوَحْشِ كَالْأَسَدِ أَوْ سِبَاعُ الطَّيْرِ كَالْبَازِي وَلَا مَنْعَ مِنَ الْجَمْعِ ، (الْإِنْسَ) أَيْ جِنْسَ الْإِنْسَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ ، ( وَحَتَّى يُكَلِّمَ الرَّجُلَ ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ ( عَذَبَةُ سَوْطِهِ ) بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ ، وَالْعَذَبَةُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ طَرَفُهُ عَلَى مَا فِي الْقَامُوسِ وَغَيْرِهِ ، وَقَالَ فِي الْمَجْمَعِ هُوَ قَدٌّ فِي طَرَفِ السَّوْطِ ، (وَشِرَاكُ نَعْلِهِ) بِكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَحَدُ سُيُورِ النَّعْلِ تَكُونُ عَلَى وَجْهِهَا " انتهى .
والأصل حمل الكلام على ظاهره حتى يأتي دليل راجح يصرفه عن المعنى الظاهر إلى معنى محتمل مرجوح ، فيكون المعنى المرجوح راجحا .
لأن القصد من النصوص هداية الخلق ، فلابد فيها من البيان والظهور ، فلا يجوز صرف معناها عن المعنى الظاهر إلى معنى آخر ، إلا بقرائن وأدلة تقتضي ذلك ، وتمنع من حمل اللفظ على ظاهره.
وكل صرف للنصوص عن ظواهرها دون اعتبار لقواعد التأويل الصحيح يعد باطلا .
فلا بد أن يحتمل اللفظ المعنى المرجوح ، وأن يقوم دليل أو تحتف بالنص قرائن تصرف المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح ، وألا يعود ذاك التأويل على أصل المعنى بالبطلان .
أنواع التأويل الباطل
قال ابن القيم في "الصواعق المرسلة" (1/187) :" وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح ، والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد ، ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك ، وكل تأويل وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول وما خالفه فهو المردود فالتأويل الباطل أنواع :
أحدها: ما لم يحتمله اللفظ بوضعه .
الثاني: ما لم يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع وإن احتمله مفردا.
الثالث: مالم يحتمله سياقه وتركيبه وإن احتمله في غير ذلك السياق .
الرابع: ما لم يؤلف استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن ألف في الاصطلاح الحادث.
الخامس: ما ألف استعماله في ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النص فيحمله المتأول في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر يحتمله .
السادس: اللفظ الذي اطرد استعماله في معنى هو ظاهر فيه ولم يعهد استعماله في المعنى المؤول أو عهد استعماله فيه نادرا فتأويله حيث ورد وحمله على خلاف المعهود من استعماله باطل فإنه يكون تلبيسا وتدليسا يناقض البيان والهداية بل إذا أرادوا استعمال مثل هذا في غير معناه المعهود حفوا به من القرائن ما يبين للسامع مرادهم به لئلا يسبق فهمه إلى معناه المألوف ، ومن تأمل لغة القوم وكمال هذه اللغة وحكمة واضعها تبين له صحة ذلك. وأما أنهم يأتون إلى لفظ له معنى قد ألف استعماله فيه فيخرجونه عن معناه ويطردون استعماله في غيره مع تأكيده بقرائن تدل على أنهم أرادوا معناه الأصلي فهذا من أمحل المحال .
السابع: كل تأويل يعود على أصل النص بالإبطال فهو باطل .
الثامن: تأويل اللفظ الذي له معنى ظاهر لا يفهم منه عند إطلاقه سواه بالمعنى الخفي الذي لا يطلع عليه إلا أفراد من أهل النظر والكلام
التاسع: التأويل الذي يوجب تعطيل المعنى الذي هو في غاية العلو والشرف ويحطه إلى معنى دونه بمراتب كثيرة ، وهو شبيه بعزل سلطان عن ملكه وتوليته مرتبة دون الملك بكثير.
العاشر: تأويل اللفظ بمعنى لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه ، فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ فإن الله سبحانه أنزل كلامه بيانا وهدى فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم تحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد لم يكن بيانا ولا هدى ..
فهذه بعض الوجوه التي يفرق بها بين التأويل الصحيح والباطل ، والله المستعان ". اهـ
والواجب أن تحمل الألفاظ في هذا الحديث ونحوه ، على المعنى الظاهر ، من كون الكلام حقيقيا من السباع ، وطرف السوط وشراك النعل والفخذ ، إذ لا يستحيل شرعا ولا عقلا حدوث ذلك ، فإن الله ينطق ما شاء بما شاء .
وأما تأويل ما ذكر في الحديث بالهواتف النقالة، ونحوها : فهو إلى تحريف معنى الحديث ، وإبطال فائدته ، أقرب منه إلى التأويل السائغ المقبول .
والله أعلم .
تعليق