الحمد لله.
أولا:
قال الله تعالى: فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ يونس/98.
فأخبر الله تعالى بأن قوم يونس بسبب إيمانهم كشف عنهم العذاب.
والمشهور عند المفسرين أنّ هؤلاء القوم هم أنفسهم الذين ذكروا في سورة "الصافات" ؛ في قوله تعالى: وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ، فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ * فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ * فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ * وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ * وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ الصافات/139 - 148.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" وإنما عنى بقوله: ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ): أنه أرسله إلى قومه الذين وعدهم العذاب، فلما أظلهم تابوا، فكشف الله عنهم وقيل: إنهم أهل نينوى " انتهى من "تفسير الطبري" (19 / 638).
ثم ساق بسند حسن؛ عن قتادة: ( -قوله تعالى-: ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ ): أرسل إلى أهل نينوى من أرض الموصل.
قال: قال الحسن: بعثه الله قبل أن يصيبه ما أصابه ( فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ). ).
ثم روى بإسناد رجاله ثقات عن مجاهد: ( قوله: ( إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُون َ) قال: قوم يونس الذين أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت ).
قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ ) اختلفوا، هل كانت رسالته قبل التقام الحوت إياه، أم بعد ذلك؟ على قولين:
أحدهما: أنها كانت بعد نبذ الحوت إياه، على ما ذكرنا في سورة "يونس"، وهو مروي عن ابن عباس.
والثاني: أنها كانت قبل التقام الحوت له، وهو قول الأكثرين، منهم الحسن، ومجاهد، وهو الأصح.
والمعنى: وكنا أرسلناه إلى مائة ألف، فلما خرج من بطن الحوت، أمر أن يرجع إلى قومه الذين أرسل إليهم " انتهى من "زاد المسير" (7 / 89).
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:
" ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولا، أُمِرَ بالعود إليهم بعد خروجه من الحوت، فصدقوه كلهم وآمنوا به " انتهى من "تفسير ابن كثير" (7 / 40).
ثانيا:
سنة الله تعالى الماضية أن المعاند إذا عاين الموت أو نزل به العذاب الذي حذر منه لم تنفعه توبة؛ وإنما تنفع التوبة قبل تلك المعاينة.
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" قوله تعالى: ( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ).
بين تعالى في هذه الآية الكريمة أن الكفار يطلبون في الدنيا تعجيل العذاب كفرا وعنادا، فإذا عاينوا العذاب آمنوا، وذلك الإيمان عند معاينة العذاب وحضوره لا يقبل منهم، وقد أنكر ذلك تعالى عليهم هنا بقوله: ( أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ )، ونفى أيضا قبول إيمانهم في ذلك الحين بقوله: ( آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ).
وأوضح هذا المعنى في آيات أخر، كقوله: ( فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ )، وقوله: ( حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ * آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ )، وقوله: ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ )، إلى غير ذلك من الآيات " انتهى من "أضواء البيان" (2 / 575 - 576).
وأما قوم يونس، فقد اختلفت أقوال المفسرين فيهم؛ هل آمنوا عند مشاهدة العذاب نفسه؟ أو عند اقترابه ومعاينة علاماته؟
فصرح بعضهم أنهم آمنوا عند معاينة العذاب نفسه، فكشف عنهم.
قال الطبري رحمه الله تعالى:
" ومعنى الكلام: فما كانت قرية آمنت عند معاينتها العذاب، ونزول سَخَط الله بها، بعصيانها ربها واستحقاقها عقابه، فنفعها إيمانها ذلك في ذلك الوقت، كما لم ينفع فرعون إيمانه حين أدركه الغرق بعد تماديه في غيّه، واستحقاقه سَخَط الله بمعصيته ( إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ )، فإنهم نفعهم إيمانهم بعد نزول العقوبة وحلول السخط بهم.
فاستثنى الله قوم يونس من أهل القرى الذين لم ينفعهم إيمانهم بعد نزول العذاب بساحتهم، وأخرجهم منهم، وأخبر خلقه أنه نفعهم أيمانهم خاصة من بين سائر الأمم غيرهم " انتهى من "تفسير الطبري" (12 / 291).
وقيل الحكمة في استثنائهم، هي أن الله تعالى علم أن إيمانهم إيمان صدق لن يعودوا بعده إلى الكفر، بخلاف غيرهم فكان إيمانهم إيمان اضطرار لدفع العذاب لا غير.
ورد في "تفسير الواحدي "البسيط" (11 / 319 - 320):
" وقال ابن الأنباري: كشف الله عنهم العذاب وقَبِل توبتهم لما علم من حسن نيتهم وأنهم يقيمون على شكره وحمده، ولا يزالون يوحدونه ويعبدونه ويتأسفون على ما فرط منهم من الكفر، بخلاف ما علم من سوء نيات الأمم المهلكين " انتهى.
وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:
" والحكمة في هذا ظاهرة، فإن الإيمان الاضطراري ليس بإيمان حقيقة، ولو صرف عنه العذاب والأمر الذي اضطره إلى الإيمان؛ لرجع إلى الكفران.
وقوله ( إِلا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا ) بعدما رأوا العذاب، ( كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) ؛ فهم مستثنون من العموم السابق، ولا بد لذلك من حكمة لعالم الغيب والشهادة لم تصل إلينا، ولم تدركها أفهامنا.
قال الله تعالى ( وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ ) إلى قوله: ( وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ * فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ ) .
ولعل الحكمة في ذلك : أن غيرهم من المهلكين ، لو رُدوا ، لعادوا لما نهوا عنه.
وأما قوم يونس ؛ فإن الله علم أن إيمانهم سيستمر، بل قد استمر فعلا ، وثبتوا عليه. والله أعلم " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 374).
وذهبت طائفة من المفسرين إلى أنهم آمنوا قبل نزول العذاب، لما علموا اقترابه.
ففي هذه الحال؛ آمنوا في وقت تقبل فيه التوبة كتوبة المريض قبل معاينته للموت، أما فرعون فإنه أعلن الإيمان بعد فوات الآوان عند معاينته للعذاب والموت.
قال أبو إسحاق الزجاج رحمه الله تعالى:
" معناه: هلَّا كانت قرية آمنت في وقت ينفعهم الِإيمان، وجرى هذا بعقب قول فرعون لما أدركه الغرق: ( آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ ).
فأعلم اللَّه -جلّ وعزَ- أن الِإيمان لا ينفع عند وقوع العذاب ولا عند حُضُورِ الموت الذي لا يُشَك فيه.
قال اللَّه -جلّ وعزّ-: ( وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ ).
وقوم يونس - واللَّه أعلم - لم يقع بهم العذاب، إنما رأوا الآية التي تدل على العذاب، فلما آمنوا كُشِفَتْ عنهم.
ومثل ذلك : العليل الذي يتوب في مرضه ، وهو يرجو في مرضه العافية ، ولا يخاف الموت؛ فتوبته صحيحة، أما الذي يعاين، فلا توبة له " انتهى من "معاني القرآن" (3 / 34).
ورجح هذا القول جماعة من أهل العلم؛ كالقرطبي رحمه الله تعالى؛ حيث قال:
" قول الزجاج حسن، فإن المعاينة التي لا تنفع التوبة معها ، هي التلبس بالعذاب كقصة فرعون، ولهذا جاء بقصة قوم يونس على أثر قصة فرعون؛ لأنه آمن حين رأى العذاب فلم ينفعه ذلك، وقوم يونس تابوا قبل ذلك. ويعضد هذا قوله عليه السلام: ( إِنَّ اللهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ ). والغرغرة الحشرجة، وذلك هو حال التلبس بالموت، وأما قبل ذلك فلا. والله أعلم " انتهى من "الجامع لأحكام القرآن" (11 / 55).
والله أعلم.
تعليق