الثلاثاء 25 جمادى الأولى 1446 - 26 نوفمبر 2024
العربية

التفكّر في الجنة ونعيمها

314536

تاريخ النشر : 25-09-2019

المشاهدات : 18384

السؤال

أحب الجنة ، وأنا متشوق جداً لدخولها ، وكلَّ يوم قبل أن أنام أتخيل الجنة ، وأنني أفعل فيها ما شاء الله ، ولكن تأتيني أوقات أشعر أنني أنسى الجنة ، وأميل إلى تضييع الكثير من الوقت في المباحات ، والميل إلى حب الدنيا ، أنا أريد أن أبقى أحب الجنة دائماً ، أريد أن لا أنساها ، وأسأل ما هي وسائل تذكير النفس بالجنة ؟ وهل لي أجر إذا تخيلت الجنة كما أفعل كل يوم قبل أن أنام؟ أرجو أن تُعَلِّق على هذا الموضوع ؛ لأنني أُحبُّ القراءة عن هذه الأشياء.

الجواب

الحمد لله.

أولا:

التفكر في الجنة ونعيمها ؛ أمر مشروع ؛ لأنه باب من أبواب تذكّر الآخرة ؛ والله تعالى قد فصّل لنا حال الجنة ونعيمها وحال الداخلين إليها؛ لكي تتصورها النفس ، ويحثها تذكرها إلى السعي إليها والمسارعة في الصالحات.

فمن تفكّر في الجنة لرفع همة النفس في المسابقة في الخيرات، واجتناب المحرمات، وليشغل نفسه عن التعلق بالدنيا ومتاعها فهو في عمل صالح ، يرجى له الأجر.

لكن على المسلم أن لا يقصر ذهنه على تذكر الجنة ؛ بل يتذكر أيضا النار وعذابها ليكون جامعا بين الخوف والرجاء ، وهو أكمل الأحوال ، وهذه طريقة القرآن الكريم ، فإنه كثيرا ما يقرن بين ذكر الجنة النار ، كما يقرن أيضا بين مغفرة الله تعالى وشدة عقابه ، كما في قوله تعالى: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة/98 .

والجمع بين الخوف والرجاء هي عبادة الأنبياء والمؤمنين الصالحين .

قال الله تعالى: وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا  الأنبياء /89 – 90 .

وقال الله تعالى:  إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ * تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا   السجدة/15 – 16.

وقال الله تعالى:  وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ  الأعراف/56 .

قال القرطبي رحمه الله تعالى:

" (وادعوه خوفا وطمعا) أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوف وتأميل لله عز وجل، حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، قال الله تعالى: ( نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ ). فرجَّى وخوَّف...

والخوف: الانزعاج لما لا يؤمن من المضار. والطمع: توقع المحبوب " انتهى من "تفسير القرطبي" (9 / 250).

وقال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" القلب في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر، فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى عدم الجناحان فهو عرضة لكل صائد وكاسر؛ لكن السلف استحبوا أن يقوى في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوى جناح الرجاء على جناح الخوف " انتهى من "مدارج السالكين" (2 / 1313).

ثانيا:

لا شك أن هذا الزمن تنوعت فيه الملهيات عن الخير وكثرت، وهذا من شأنه أن يقسي القلب وينسىيه تذكّر الحياة الحقيقية ، وهي الحياة الآخرة وما فيها من نعيم وعذاب.

فعلى المسلم أن يسعى في إخراج قلبه من ظلمات الغفلة ؛ ومن الأمور المعينة على هذا:

الأمر الأول:

الصحبة الصالحة؛ فعلى المسلم أن يحرص على مصاحبة الصالحين الأتقياء الذين يذكرونه بأفعالهم وأقوالهم بالآخرة.

قال الله تعالى:  وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا  الكهف/28.

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" يأمر تعالى نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وغيره أسوته، في الأوامر والنواهي - أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين ( الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ) أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله ، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ، ومخالطتهم وإن كانوا فقراء فإن في صحبتهم من الفوائد، ما لا يحصى.

( وَلا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ) أي: لا تجاوزهم بصرك، وترفع عنهم نظرك.

( تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة ، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل ، فيغفل القلب عن ذكر الله ، ويقبل على اللذات والشهوات ، فيضيع وقته، وينفرط أمره ، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية، ولهذا قال: ( وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ) غفل عن الله ، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 475).

فعلى المسلم أن يلازم الصالحين الذاكرين، وأن يفرّ من أهل البطالة والمشتغلين باللهو واللعب عن فعل الخيرات؛ فهؤلاء -أهل البطالة- ينسون الشخص تذكر الآخرة ويعيقونه عن الاشتغال بما ينفعه في الدنيا والآخرة ، فمن لازمهم فهو على خطر الندامة الشديدة يوم القيامة؛ كما وصف الله تعالى ذلك:   وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا  الفرقان/27 - 29.

الأمر الثاني:

ملازمة دروس العلم والوعظ وتدبّر القرآن؛ فالعلم طريق إلى ملازمة ذكر الآخرة وما فيها من نعيم وعذاب وهذا يحصّل قوة الخشية من الله تعالى ويدفع الغفلة عن القلب بإذن الله تعالى؛ قال الله تعالى:  إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ  فاطر/28 .

قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله تعالى:

" ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} فكل من كان بالله أعلم، كان أكثر له خشية، وأوجبت له خشية الله، الانكفاف عن المعاصي، والاستعداد للقاء من يخشاه، وهذا دليل على فضيلة العلم، فإنه داع إلى خشية الله، وأهل خشيته هم أهل كرامته، كما قال تعالى: ( رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ ) " انتهى من "تفسير السعدي" (ص 688).

الأمر الثالث:

اتباع الجنائز وزيارة المقابر؛ ففي هذا تنبيه للقلب من غفلته.

عَنِ ابْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:   نَهَيْتُكُمْ عَنْ زِيَارَةِ الْقُبُورِ، فَزُورُوهَا  رواه مسلم (977) ، وفي رواية  فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الآخِرَةَ رواها الترمذي (1054): وقال: " حَدِيثُ بُرَيْدَةَ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".

الأمر الرابع:

ملازمة المسلم للدعاء والشكوى إلى الله تعالى بأن يحيي قلبه ويعيذه من الغفلة، مع تحري أوقات الإجابة كأثناء السجود وثلث الليل الأخير، مع التضرع والإلحاح .

ثالثا:

لا بد أن تعلم أنك مهما جاهدت نفسك على التذكر، فلا بد لها من ساعة فتور، وساعة سكون، وساعة من حاجاتها المباحة من أمر الدنيا.

فعَنْ أَبِي عُثْمَانَ النَّهْدِيِّ ، عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ ، قَالَ: - وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا!!

قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا !!

فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ ؟!

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  وَمَا ذَاكَ؟  قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا !!

فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً  ثَلَاثَ مَرَّاتٍ ".

رواه مسلم (2750).

وينظر للفائدة : جواب السؤال رقم : (296830) ، ورقم : (70314) ، ورقم : (114489) .

نسأل الله الكريم أن يحيي قلوبنا بالإيمان، وأن يعيذنا من داء الغفلة وقسوة القلوب.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب