الجمعة 21 جمادى الأولى 1446 - 22 نوفمبر 2024
العربية

هل قال ابن عباس إن نصوص الصفات من المتشابه ؟

326555

تاريخ النشر : 21-07-2020

المشاهدات : 16090

السؤال

تحاجَّتِ الجنَّةُ والنَّارُ، وفيه: (فلا تمتلِئُ حتَّى يضعَ رجلَهُ - أو قال: قدَمَهُ – فيها "، قال: فقامَ رجلٌ فانتفَضَ، فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: ما فَرَّقَ هؤلاءِ، يجِدونَ رقَّةً عندَ مُحَكمِهِ، ويهلِكونَ عندَ مُتشابِهِهِ "، هذا الكلام ورد عن ابن عباس أنه قال عن صفة القدم لله تعالى : أنها متشابه، فهل الصفات مثل: اليد والأصابع والوجه والقدم من المتشابهات ؟

ملخص الجواب

أثر ابن عباس ليس فيه أن نصوص الصفات أو بعضها من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، وغايته أنه أدخل النص المشتمل على هذه الصفة في المتشابه، وهذا لا إشكال فيه، فإما أنه أراد المتشابه النسبي، أو أراد كيفية الصفة وحقيقتها، فإن ذلك لا يعلمه إلا الله، وأما معنى الكلام، بأصل وضعه اللغوي: فمعلوم، لا سيما لابن عباس الذي يرى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله.

الحمد لله.

أولا: المراد بأثر ابن عباس " يجدون عند محكمه ويهلكون عند متشابهه "

أثر ابن عباس رضي الله عنه رواه عبد الرزاق الصنعاني عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " سَمِعْتُ رَجُلًا يُحَدِّثُ ابْنَ عَبَّاسٍ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا، فَقَامَ رَجُلٌ فَانْتَقَضَ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا فَرَّقَ مِنْ هَؤُلَاءِ، يَجِدُونَ عِنْدَ مُحْكَمِهِ، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ" .

وينظر: "الجامع" لمعمر بن راشد (20895).

وحديث أبي هريرة هو قوله: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ وَعُرَاتُهُمْ؟ فَقَالَ اللَّهُ لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَتِي أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا، فَأَمَّا النَّارُ فَإِنَّهُمْ يُلْقَوْنَ فِيهَا (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) ق/30، فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ رِجْلَهُ - أَوْ قَالَ: قَدَمَهُ - فِيهَا فَتَقُولَ: قَطٍ قَطٍ قَطٍ، فَهُنَالِكَ تُمْلَأُ وَتَنْزَوِي بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللَّهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللَّهَ يُنْشِئُ لَهَا مَا شَاءَ  .

وروى ابن أبي شيبة في "المصنف" (37902) عن ابن عباس، أنه ذكر ما يلقى الخوارج عند القرآن فقال: "يؤمنون عند محكمه، ويهلكون عند متشابهه".

ومقصوده: ما اشتبه عليهم، مما أوجب لهم تكفير المسلمين واستحلال دمائهم.

فالمقصود بالمتشابه هو: كل ما اشتبه على صاحبه، فلم يسلّم له، بل قابله بالإنكار والاعتراض، أو حمله على غير وجهه.

وهذا قد يقع في الصفات، وقد يقع في آيات الأحكام وغيرها. وهذا ما يسمى بالمتشابه النسبي، الذي يعلمه البعض ويخفى على البعض.

وأما المتشابه الحقيقي الذي لا يعلمه إلا لله، فكحقائق المغيبات، وتفاصيل الأوقات والآجال المستقبلة التي لم يصرح بها في الشرع؛ كوقت نزول عيسى ابن مريم، وقيام الساعة ونحو ذلك.

وأما آيات الصفات: فلم ينقل عن أحد من السلف أنها من المتشابه، ولو نقل عنهم ذلك لأمكن حمله على كيفية الصفات، فإنه لا يعلم حقيقتها إلا الله، وهذا يمكن أن يقال هنا، فيحمل أثر ابن عباس على:

1-المتشابه النسبي الذي قد يخفى على بعض الناس دون بعض.

2-كيفية اتصاف الله بصفة القدم وغيرها.

وقد ذكر ابن جرير رحمه الله خمسة أقوال في المتشابه، ليس منها آيات الصفات، وأوصلها ابن الجوزي رحمه الله إلى سبعة أقوال ليس فيها تعرض لذلك أيضاً.

قال ابن الجوزي رحمه الله: " وفي المتشابه سبعة أقوال:

أحدها: أنه المنسوخ، قاله ابن مسعود، وابن عباس، وقتادة، والسدي في آخرين.

والثاني: أنه ما لم يكن للعلماء إلى معرفته سبيل، كقيام الساعة، روي عن جابر بن عبد الله.

والثالث: أنه الحروف المقطعة، كقوله: ألم ونحو ذلك، قاله ابن عباس.

والرابع: أنه ما اشتبهت معانيه، قاله مجاهد.

والخامس: أنه ما تكررت ألفاظه، قاله ابن زيد.

والسادس: أنه ما احتمل من التأويل وجوهاً. وقال ابن الأنباري: المحكم ما لا يحتمل التأويلات، ولا يخفى على مميّز، والمتشابه: الذي تعتوره تأويلات. 

والسابع: أنه القصص والأمثال، ذكره القاضي أبو يعلى" انتهى من "زاد المسير" (1/ 350).

وجزم ابن جرير رحمه الله بأن المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله، هو من نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم، ووقت طُلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وأن ما عدا ذلك محكم.

قال رحمه الله: "وقال آخرون: بل المحكم من آي القرآن: ما عرف العلماءُ تأويله، وفهموا معناه وتفسيره، والمتشابه: ما لم يكن لأحد إلى علمه سبيل، مما استأثر الله بعلمه دون خلقه، وذلك نحو الخبر عن وقت مَخْرج عيسى ابن مريم، ووقت طُلوع الشمس من مغربها، وقيام الساعة، وفناءِ الدنيا، وما أشبه ذلك، فإن ذلك لا يعلمه أحدٌ. وقالوا: إنما سمى الله من آي الكتاب (المتشابه)، الحروف المقطّعة التي في أوائل بعض سور القرآن، من نحو(ألم) و(ألمص)، و(ألمر)، و(ألر)، وما أشبه ذلك؛ لأنهن متشابهات في الألفاظ، وموافقات حروف حساب الجمَّل. وكان قومٌ من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، طَمِعوا أن يدركوا من قِبَلها معرفة مدّة الإسلام وأهله، ويعلموا نهايةَ أُكْلِ [مدة العمر] محمد وأمته، فأكذب الله أحدوثتهم بذلك، وأعلمهم أنّ ما ابتغوا علمه من ذلك من قِبَل هذه الحروف المتشابهة، لا يدركونه، ولا من قبل غيرها، وأن ذلك لا يعلمه إلا الله.

قال أبو جعفر: وهذا قولٌ ذُكر عن جابر بن عبد الله بن رئاب: أن هذه الآية نزلت فيه، وقد ذكرنا الرواية بذلك عنه وعن غيره ممن قال نحو مقالته، في تأويل ذلك في تفسير قوله:( الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ) [سورة البقرة: 2].

قال أبو جعفر: وهذا القول الذي ذكرناه عن جابر بن عبد الله أشبه بتأويل الآية، وذلك أن جميع ما أنزل الله عز وجل من آي القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم، فإنما أنزله عليه بيانًا له ولأمته وهدًى للعالمين، وغيرُ جائز أن يكون فيه ما لا حاجة بهم إليه، ولا أن يكون فيه ما بهم إليه الحاجةُ، ثم لا يكون لهم إلى علم تأويله سبيل. ..

والذي لا حاجة بهم إلى علمه منه، هو العلم بمقدار المدة التي بين وقت نزول هذه الآية، ووقت حدوث تلك الآية؛ فإن ذلك مما لا حاجة بهم إلى علمه في دين ولا دنيا. وذلك هو العلم الذي استأثر الله جل ثناؤه به دون خلقه، فحجبه عنهم. وذلك وما أشبهه، هو المعنى الذي طلبت اليهودُ معرفته في مدّة محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من قبل قوله:"ألم" و"ألمص" و"ألر" و"ألمر" ونحو ذلك من الحروف المقطّعة المتشابهات، التي أخبر الله جل ثناؤه أنهم لا يدركون تأويل ذلك من قبله، وأنه لا يعلم تأويله إلا الله.

فإذْ كان المتشابه هو ما وصفنا، فكل ما عداه فمحكم؛ لأنه لن يخلو من أن يكون محكمًا بأنه بمعنى واحد، لا تأويل له غير تأويل واحد، وقد استغنى بسماعه عن بيانٍ يُبينه، أو يكون محكمًا، وإن كان ذا وُجوه وتأويلات وتصرف في معان كثيرة، فالدلالة على المعنى المراد منه، إما من بيان الله تعالى ذكره عنه، أو بيان رسوله صلى الله عليه وسلم لأمته، ولن يذهبَ علم ذلك عن علماء الأمة لما قد بيَّنّا " انتهى من "تفسير ابن جرير" (6/ 174).


ثانيا: 

أن ابن عباس رضي الله عنه قد روي عنه الوقف على قوله: (والراسخون في العلم)، وكان يقول: أنا من الراسخين في العلم، أي الذين يعلمون تأويله، فكيف ينسب إليه أن آيات الصفات من المتشابه الحقيقي الذي لا يعلم تأويله إلا الله؟!

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره (2/ 11): " وقد روى ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: أنا من الراسخين الذين يعلمون تأويله" انتهى.


ثالثا: معنى التأويل الوارد في الكتاب والسنة 

أنه لو فرض أن الصفات من المتشابه الذي لا يعلم تأويله إلا الله، فإنه لا يلزم من ذلك عدم العلم بمعناها؛ لأن عدم العلم بالتأويل لا يستلزم عدم العلم بالمعنى؛ فالمتشابه الحقيقي الذي مضى نقله عن السلف– في كلام ابن جرير وابن الجوزي- كوقت الساعة ونزول عيسى عليه السلام معلوم المعنى، من حيث وضعه في لغة العرب؛ وإن كان لا يعلم تأويله إلا الله.

وذلك أن التأويل في الكتاب والسنة جاء على معنيين:

الأول: التأويل بمعنى التفسير، ومنه قوله تعالى: " نَبِأنَا بِتَأوِيلِه" يعنى نبئنا بتفسيره, أي تفسير الرؤيا، ومنه قول النبى صلى الله عليه وسلم لابن عباس:  اللهم علمه التأويل   يعنى التفسير.

ومنه قول الإمام ابن جرير في تفسيره: (القول في تأويل الآية) أي تفسيرها.

والثاني: التأويل بمعنى حقيقة ما يؤول إليه الشيء، ومنه قول  يوسف عليه السلام:  وَقاَلَ يَأَبَتِ  هَذَا تَأوِيلُ رُؤيَاىَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّى حَقَاً   (يوسف) ، وقوله تعالى:  هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَ تَأوِيلَهُ  (الأعراف) ، يعني أخبار يوم القيامة ووقوعها.

ومنه قوله تعالى:  بَلْ كَذَّبُوا بِعِلمِهِ وَلَمَا يَأتِهِمْ تَأوِيلُهُ   أي لم يقع بعد.

والتأويل بهذا المعنى هو الغالب في القرآن، فينبغي أن تحمل عليه آية آل عمران.

فكون الشيء لا يٌعلم تأويله، لا يستلزم أنه لا يُعلم معناه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "ونفي علم تأويله، ليس نفي علم معناه، كما قدمناه في القيامة وأمور القيامة...

وإنما نكتة الجواب هو ما قدمناه أولا؛ أن نفي علم التأويل، ليس نفيا لعلم المعنى"  انتهى من "مجموع الفتاوى" (13/ 306).

وقال رحمه الله في (13/ 294): " من قال: إن هذا من المتشابه، وأنه لا يفهم معناه، فنقول أما الدليل على بطلان ذلك، فإني ما أعلم عن أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة، لا أحمد بن حنبل ولا غيره أنه جعل ذلك من المتشابه الداخل في هذه الآية، ونفى أن يعلم أحد معناه، وجعلوا أسماء الله وصفاته بمنزلة الكلام الأعجمي الذي لا يفهم، ولا قالوا: إن الله ينزل كلاما لا يفهم أحد معناه.

وإنما قالوا كلمات لها معان صحيحة. قالوا في أحاديث الصفات: تمر كما جاءت. ونهوا عن تأويلات الجهمية، وردوها وأبطلوها، التي مضمونها تعطيل النصوص عما دلت عليه.

ونصوص أحمد والأئمة قبله بينة في أنهم كانوا يبطلون تأويلات الجهمية، ويقرون النصوص على ما دلت عليه من معناها، ويفهمون منها بعض ما دلت عليه، كما يفهمون ذلك في سائر نصوص الوعد والوعيد والفضائل وغير ذلك.

وأحمد قد قال في غير أحاديث الصفات: تمر كما جاءت، وفي أحاديث الوعيد مثل قوله: من غشنا فليس منا، وأحاديث الفضائل؛ ومقصوده بذلك: أن الحديث لا يُحرف كلمه عن مواضعه، كما يفعله من يحرفه، ويسمي تحريفه تأويلا بالعرف المتأخر" انتهى.

والحاصل:

أن أثر ابن عباس ليس فيه أن نصوص الصفات أو بعضها من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله، وغايته أنه أدخل النص المشتمل على هذه الصفة في المتشابه، وهذا لا إشكال فيه، فإما أنه أراد المتشابه النسبي، أو أراد كيفية الصفة وحقيقتها، فإن ذلك لا يعلمه إلا الله، وأما معنى الكلام، بأصل وضعه اللغوي: فمعلوم، لا سيما لابن عباس الذي يرى أن الراسخين في العلم يعلمون تأويله.

والله أعلم.

هل انتفعت بهذه الإجابة؟

المصدر: موقع الإسلام سؤال وجواب