الحمد لله.
أولًا:
ينبغي أن يُعلم أن ظهور أحكام الصفات وآثارها لا بد منه لأنه مقتضى كمال الله تعالى ، والقول بوجود صفة وعدم وجود آثارها هو من التعطيل لهذه الصفة ، فيمتنع تعطيل آثار أسمائه وصفاته كما يمتنع تعطيل ذاته عنها.
يقول ابن القيم : ” إذ ظهور هذه الصفات والأسماء: تستلزم مَحالَّ وتعلقاتٍ تتعلق بها ، ويظهر فيها آثارها ، وهذا أمر ضروري للصفات والأسماء، إذ العلم لابد له من معلوم ، وصفة الخالقية ، والرازقية ، تستلزم وجود مخلوق ومرزوق، وكذلك صفة الرحمة ، والإحسان ، والحلم ، والعفو ، والمغفرة ، والتجاوز ؛ تستلزم …
فإن الكون – كما هو محل الخلق والأمر ، ومظهر الأسماء والصفات – فهو بجميع ما فيه: شواهدُ وأدلة وآيات، دعا الله سبحانه عباده إلى النظر فيها ، والاستدلال بها على وجود الخالق ، والاعتبار بما تضمنته من الحكم والمصالح والمنافع، على علمه وحكمته ورحمته وإحسانه ، وبما تضمنته من العقوبات على عدله ، وأنه يغضب ويسخط ، ويكره ويمقت ، وبما تضمنته من المثوبات والإكرام على أنه يحب ، ويرضى ويفرح، فالكون – بجملة ما فيه – آيات وشواهد وأدلة …
هذا ولم يخلقها سبحانه عن حاجة منه إليها، ولا توقفا لكماله المقدس عليها ، فلم يتكثر بها من قلة ، ولم يتعزز بها من ذِلَّة ، بل اقتضى كماله أن يفعل ما يشاء ، ويأمر ويتصرف ويدبر كما يشاء ، وأن يحمد ويعرف ، ويذكر ويعبد ، ويعرف الخلق صفات كماله ونعوت جلاله ، ولذلك خلق خلقًا يعصونه ويخالفون أمره ، لتعرف ملائكته وأنبياؤه ورسله ، وأولياؤه كمال مغفرته ، وعفوه ، وحلمه وإمهاله ، ثم أقبل بقلوب من شاء منهم إليه ، فظهر كرمه في قبول توبته ، وبره ولطفه في العود عليه بعد الإعراض عنه ، كما قال النبي – صلى الله عليه وسلم – «لو لم تذنبوا، لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون ثم يستغفرون فيغفر لهم».
فلمن كانت تكون مغفرته، لو لم يخلق الأسباب التي يعفو عنها ويغفرها؟ والعبد الذي له يغفر؟ فخلق العبد المغفور له ، وتقدير الذنب الذي يغفر ، والتوبة التي يغفر بها هو نفس مقتضى العزة والحكمة ، وموجب الأسماء الحسنى، والصفات العلا”، “مدارج السالكين” (3/ 369 – 370).
ثانيًا :
هذه المسألة أيها الأخ الكريم لها تعلق بمسألة التسلسل ، وقد بيناها في الجواب رقم:(162155).
وأما بخصوص سؤالك ، فملخص الجواب :
أن ” دوام أفعال الرب أزلاً – الأزل : هو القِدَم الذي لا بداية له – وأبداً – الأبد : هو المستقبل الذي لا نهاية له – : فذلك معنى صحيح دل عليه العقل والشرع ، فإثباته واجب ، ونفيه ممتنع ، قال الله تعالى : ( فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ ) هود/ 107.
والفعَّال هو من يفعل على الدوام ، ولو خلا من الفعل في أحد الزمانين لم يكن فعَّالاً؛ فوجب دوام الفعل أزلاً وأبداً.
ثم إن المتصف بالفعل، أكمل ممن لا يتصف به، ولو خلا الرب منه لخلا من كمال يجب له، وهذا ممتنع.
ولأن الفعل لازم من لوازم الحياة ، وكل حي فهو فعال ، والله تعالى حيٌّ فهو فعال، وحياته لا تنفك عنه أبداً وأزلاً.
ولأن الفرق بين الحيِّ والميتِ الفعلُ، والله حيٌّ؛ فلا بد أن يكون فاعلاً.
وخُلُوُّه من الفعل في أحد الزمانين الماضي والمستقبل: ممتنع، فوجب دوام فعله أزلاً وأبداً .
فخلاصة هذه المسألة : أنه إذا أريد بالتسلسل دوام أفعال الرب : فذلك معنى صحيح ، واجب في حق الله ، ونفيه ممتنع .
ولا يجوز أن يكون تعالى معطَّلاً عن الفعل، ثم فعل ، أو أنه اتصف بصفة من الصفات، بعد أن لم يكن متصفاً بها ، أو أنه حصل له الكمال، بعد أن لم يكن؛ فذلك معنى باطل لا يجوز .
فالله عز وجل لم يزل متَّصفاً بصفات الكمال: صفات الذات ، وصفات الفعل ، ولا يجوز أن يُعتقد أن الله اتصف بصفة بعد أن لم يكن متصفاً بها ؛ لأن صفاته سبحانه صفات كمال ، وفَقْدُها صفة نقص ، فلا يجوز أن يكون قد حصل له الكمال بعد أن كان متصفاً بضده .
قال الإمام الطحاوي رحمه الله : ” ما زال بصفاته قديماً قبل خلقه ، لم يزدد بكونهم شيئاً لم يكن قبلهم من صفته ، وكما كان بصفاته أزليّاً ، كذلك لا يزال عليها أبديّاً ” .
انتهى من ” شرح العقيدة الطحاوية ” ( ص 124) .
مثال ذلك : صفة الكلام ؛ فالله عز وجل لم يزل متكلماً إذا شاء ، ولم تحدث له صفة الكلام في وقت ، ولم يكن معطَّلاً عنها في وقت ، بل هو متصف بها أزلاً وأبداً .
وكذلك صفة الخلق ، فلم تحدث له هذه الصفة، بعد أن كان معطَّلاً عنها .
ثالثًا :
يقول الشيخ “ابن عثيمين” رحمه الله: ” فالله عز وجل ليس محتاجاً إلى الخلق بمعنى أنه لو لم يوجد هذا الخلق لفات كماله، وليس هناك ضرورة إلى وجودهم من باب أولى.
فأفعال الله التي يفعلها؛ لا يفعلها لحاجته إليها، ولا لضرورته إليها، ونحن نفعل الأفعال لحاجتنا إليها، فنتكسب لنزداد من المال وهذه حاجة، ونتكسب لننقذ أنفسنا من الهلاك وهذه ضرورة.
لكن الله عز وجل يفعل بلا حاجة، ولا اضطرار، لأن الله عز وجل يقول (وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر: الآية 15) ، فهو غني عن كل أحد، حميد على كل فعل، وعلى كل صفة، فلا يفعل لحاجة ولا يفعل لضرورة ” .. “.
فالله سبحانه وتعالى يفعل الفعل لحاجة الخلق إليه، لا لحاجته هو إلى الفعل، فهو كامل على كل حال، لكن الخلق هم الذين يحتاجون إلى ما يكون به كمالهم، ودفع ضرورتهم، ولذلك لا ينتفع بأفعال الله إلا الخلق، فهم يستدلون بها على آياته، وعلى فضله، وعلى عدله، وعلى عقابه وانتقامه، وغير ذلك.
فالحاجة إذاً للخلق، وليست للخالق، أما الخالق عز وجل فإنه يفعل بلا حاجة، ولا اضطرار.
أما الدليل النظري: – على أن الله يخلق لغير حاجة ولا اضطرار – أن العقل يدل على كمال الخالق، والكامل لا يحتاج إلى مكمل”، “شرح السفارينية” (321 – 322).
وقال “صالح آل الشيخ” : “الرب – عز وجل – أَوَّلٌ بصفاته ، وصفاته سبحانه وتعالى قديمة ، يعني هو أوَّلٌ سبحانه وتعالى بصفاته .
وأنه سبحانه كان من جهة الأولية بصفاتهِ .
وأنّ صفات الرب – عز وجل – لابد أن تظهر آثارها؛ لأنه سبحانه فَعَّالٌ لما يريد.
والرب – عز وجل – له صفات الكمال المطلق، ومن أنواع الكمال المطلق: أنْ يكون ما أراد سبحانه وتعالى.
فما أراده كوناً، لابد أن يكون.
ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن.
ومن مذهب أهل السنة والحديث والأثر: أنّه سبحانه يجوز أن يكون خَلَقَ أنواعاً من المخلوقات وأنواعاً من العوالم غير هذا العالم الذي نراه.
فجنس مخلوقات الله – عز وجل – أعمّ من أن تكون هذه المخلوقات الموجودة الآن، فلا بد أن يكون ثَمَّ مخلوقات أوجدها الله – عز وجل – وأفناها، ظَهَرَت فيها آثار أسمائه وصفاته – عز وجل -.
فإنَّ أسماء الرب – عز وجل – وإنّ صفات الرب – عز وجل – لابد أن يكون لها أثرُها؛ لأنه سبحانه فعّال لما يريد.
فما أراده سبحانه فَعَلَهُ، وَوَصَفَ نفسه بهذه الصفة على صيغة المبالغة الدالة على الكمال بقوله {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} (1) ، فما أراده سبحانه كان “، انتهى ، “شرح الطحاوية” صالح آل الشيخ (61).
فخلاصة جوابك أن صفات الله تعالى أزلية ، ولم يكن ربنا سبحانه وبحمده معطلًا عن الفعل .
وأما ما جاء في السؤال: ” هل نعبد الله بصفاته … أم بذاته المقدسة؟”.
فهذا السؤال مغلطة؛ فإنه افترض “المقابلة” بين شيئين، لا تقابل لهما، بل هما متلازمان؛ فيقال:
إن افتراض ذات، موجودة في الخارج، بدون: صفات، هو وهم في الخيال، من أوهام المتكلمين، وأغاليطهم. وإنما الفصل بينهما: فصل ذهني، تعليمي. وليس في الخارج: موجود، لا خالق، ولا مخلوق، هو ذات فقط، بدون صفات توصف بها.
فيقال في الجواب عن سؤالك:
إن صفات الله عز وجل، ملازمة لذاته، فنعبد الله جل جلاله، الذي هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن … ؛ إلى آخر ما نعلمه من أسمائه الحسنى، وصفاته العلى.
والله أعلم.
تعليق